التغيير الديمقراطي / السلمي/ المتدرج

أنتبه, فتح في نافذة جديدة. صيغة PDFطباعةأرسل لصديقك

التغيير الديمقراطي / السلمي/ المتدرج

جبر الشوفي

يفترض أن يكون عقد المجلس الوطني لقوى ائتلاف ( إعلان دمشق ) بما تمخض عنه من نتائج وما ترتب عليه من مسؤوليات قد حلّ عقدة لسان الإعلان, وحرره من احتباس طال سنتين من عمر انطلاقته الأولى, كي يعبر من فضاء النص إلى محك المفاهيم المنطوية في جوهره, وأهمها, عبارة" التغيير السلمي المتدرج" التي تشكل جوهر الإعلان, ولكنها تعلِّق سؤالاً أساسياً, معرفياً , يكمن الجواب عليه في إقرار آليات عمله وتسييره على سكة التغيير, وليس في تفسيره ومباشرة المناقشة فيه فقط.

وإذا كان الفضل في إطلاق مصطلح " التغيير الديمقراطي السلمي المتدرج" عبر تحديده, ورسم ملامحه العامة وتسييره يعود إلى نص أو وثيقة " إعلان دمشق" 16/10/2005 فإن هذا المصطلح قد خوّل كل القائلين وكل الآخذين والعاملين على مبدأ التغيير أن يباشروه كمشروع, يملك من الخصوصية ما يمكنه من لغة الحوار مع المختلف والمؤتلف فيه, ومن الجماعية ما يجسده وعياً وخياراً ديمقراطياً, وانخراطاً في ورش العمل من أجل ترسيمه وتجسيده على أرض الواقع, وإبقائه مشروعاً مفتوحاً على النقد والتجدد .

لقد اكتسب مصطلح التغيير الديمقراطي بدمجه بالسلمي أسلوباً والمتدرج زمناً, مشروعية التداول فيه, وبه, باعتباره نتاجاً طيباً لقراءة موضوعية متأنية للواقع السياسي والاجتماعي والثقافي للمجتمع السوري, وعبر توصيفه للإمكانيات الذاتية لقوى التغيير, - دون أن يفترض ذلك تخليه عن السلمية فيما لو توفرت إمكانيات ذاتية أقوى وأنضج- لأن السلم خيار استراتيجي نهائي, يطمح إلى القوننة, في دستور وطني ديمقراطي يسوّد- من السيادة- الثوابت الأخلاقية الوطنية ويعمل على تجسيدها واقعياً.

السلمية استراتيجية وآليات عمل مبنية على خيار طوعي ديمقراطي, منطلق من روح وطنية عالية, تؤسس لفاعلية اجتماعية وسياسية منطوية على ما يضمره التغبير من العمل على إحقاق حقوق الإنسان وحقوق المواطنة, والدفع بها إلى الوضوح والعلن وجعلها ثقافة اجتماعية, يتحصن بها المواطن والوطن دافعاً بكل استبداد وإلغاء واستلاب.

إن النشاط السلمي هو جوهر النشاط الديمقراطي باعتبار أنّ الديمقراطية تحويل لمجرى الصراع العنيف على المصالح والأفكار والبرامج, إلى صراع مدني سياسي, وقبول بنتائج هذا الصراع الموضوعي, دون أن تأخذ المنتصر نشوة الانتصار فيفلت نزعاته وأهوائه بما يؤدي إلى محو الآخر, أو إلغائه, أو الحطّ من شأنه, إذ أن عليه أن يؤمن إيماناً نهائياً أن مسار الحركة بين المتنافسين مسار حلقي متموج, يدفع بهذا تارة وذاك تارة أخرى وقد يدفع بضده أو بضديهما معاً.

وكون السلم خياراً استراتيجياً ديمقراطياً نهائياً واعياً, يعني رفضه لكلّ أساليب العنف مسلحة وغير مسلحة, والدفع بها وبالاستبداد السياسي وبكل وسائله ومفاهيمه ومخلفاته بعيداً- من أية جهة جاء- وتوطيد السلم بالقوانين وبالدستور المجسد للخيارات الوطنية, والاكتناز بالنظرية الناظمة للحركة والتغذي بنبضها والتساوق مع إيقاعها الزمني المتسارع دون استعجال, لأنّ التغيير حركية لا تتجدد إلا بتسييرها على مسار التدرج المتصاعد, الذي لا يرتهن لآلية الحركة المستلبة أو الفالتة من ناظمها الزمني.

ليس السلم ثقافة سلبية ولا آلية تعطيل أو تجميد للصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي المشروعة, بل إنه نشاط يسعى إلى جعل السلم ثقافة قائمة على الحوار الجاد والمباشر, ويشمل الأفراد والمجتمع والدولة, ويسعى إلى تعميمه والتحشيد له والتسلح به, في وجه العنف المنظم والعشوائي, وهو ما يتطلب إعلاء قيم التسامح والتصالح وطي حزازات الماضي وعداواته, بكل الوسائل, وبزج كل النشاطات الثقافية والسياسية والاجتماعية ووسائل الاتصال المرئية والمسوعة في سبيل ذلك.

إن التدرج يعني رفض أساليب القفز في الهواء والبهلوانيات الاستعراضية, وأن نسير بالمجتمع ومعه في طريق الانتقال الهادئ المكتنز بمفهوم الديمقراطية والسلم والاعتراف بالآخر في مجرى تحديث الخيارات, وبما يواكب مسار الحداثة, بوصفها منظومة مفاهيم تبنى على اعتبارات أخلاقية محددة, وأساليب عمل مبتكرة وبحث وتحليل واستنتاج نظري يشير إلى وجهة هذه الحركة, التي يجب أن تبلور خيارتها عبر ملاقحة دائمة بين النظري والتطبيقي, والاستراتيجي والتكتيكي, بما يحقق إمكانية تجديد هذه الخيارات وتحديثها, دون ارتهانها لسقوف مصطنعة, أو إطلاقها في فضاء التهويم الحالم.

إن التغيير السلمي المتدرج هو قراءة موضوعية علمية لواقع الحركة السياسية والاجتماعية والثقافية في مجتمعنا السوري, وهو مباشرة هذه القراءة بتحريرها من قدسية النص وإنزالها إلى المعترك اليومي, كي تختبر معدنها على المحك فتكتسب مصداقتها ومشروعيتها, إذ بدون هذا الاختبار تبقى مشروع هوى للنفوس وترفاً للمترهلين والمتفكهين بالسياسة والثقافة.

هو ذا محك الثقافة والمثقفين التغييريين- كما هي محك السياسة والسياسيين- الذين لم يعد يستر عريهم ذاك التهافت على ثقافة طهرانية تضع الثقافة في وجه السياسة, أو ترى في الثقافة فعلاً تطهيرياً من شوائب السياسة وهمومها ومعتركها الذي هو تكثيف حي, دينامي, لمعترك الحياة الوطنية الديمقراطية, في مسار التجدد وحرية الخيار, وفي العمل على الدخول إلى حداثة الفكر والبنى والآليات معاً.

إن التغيير السلمي الديمقراطي المتدرج, هو مباشرة للفعل, وإطلاق لآليات العمل المتعدد المتنوع, نحو المجتمع والدولة معاً, لتسريب جرثومة الديمقراطية إلى دورته الدموية وتمكينها من التجانس والتفاعل وتوطينها دون تدجين, كي تكتسب هويتها الأبدية, فلا تفكر بالهجرة والاغتراب ولا تستلب مرة أخرى.

إنّ التغيير السلمي الديمقراطي المتدرج, لا يجعل من الإعلان نشاطاً فكريا في الحقل الثقافي فحسب, ولا ينزع عنه صفة السياسة, إنما يعطيه هوية السياسة عبر فعل ذي صفة ثقافية, اجتماعي في الحقل الاجتماعي, وسياسي في الحقل السياسي, وفكري في حقل الثقافة, وهذه الحقول الثلاثة ليست حقولاً منفصلة إلا بمقدار تخصيصها للحركة باتجاهها, و خصوصية العمل فيها, وهي في المحصلة حرث الفكر والسياسة معاً.

إنّ المسافة بين المجلس الوطني لإعلان دمشق وهدفه مهما بعدت أو اقتربت, يجب أن تساهم في إطلاق تيار ديمقراطي سوري عريض, وأن تحلّ عقداً مرحّلة من مفاهيم الماضي وأساليب عمله, يكون في أولها مفاهيم المقاومة والقومية وحقوق الكرد والأقليات الأخرى, وصولاً إلى فهم ديمقراطي غير مجتزأ ولا مرتهن لخيارت الماضي ولا لمفاهيمه الملتبسة