المجتمع المدني بين التهميش و التجييش

أنتبه, فتح في نافذة جديدة. صيغة PDFطباعةأرسل لصديقك

المجتمع المدني بين التهميش و التجييش

نضال درويش

أعاد مصطلح المجتمع المدني الاعتبار لنفسه ، بعد أن تعرض لعقود طويلة من الإهمال ، حيث كان يعتبر مفهوما قديما و محافظا من ناحية ، وغير مألوف و مهملا إلى حد كبير من ناحية ثانية ، و ارتبط بتجربة تاريخية محددة و حاضنة ثقافية بعينها من ناحية ثالثة .

بعد هذا الإهمال الطويل ، تم أحيائه مع تظاهرات المجتمع المدني في بداية السبعينات من القرن الماضي في أوروبة الشرقية أولا و من ثم أوروبا و باقي دول العالم . و إذا كانت تظاهرات إحياء المجتمع المدني أخذت أشكال متنوعة تاريخيا ، أي أن هذه التظاهرات كانت تحمل خصائص الأمة التي أنتجتها ( الخصائص تقيم الفروق ) ، إلا أنها تؤكد ما هو عام و مشترك و كوني في آن . إن هذا الأحياء  أرتبط بتحديات متباينة و مختلفة ، و أولويات اختلفت من بلد إلى آخر ، حتى أنه يمكن القول : أن مصطلح المجتمع المدني أضح اليوم أكثر استخداما بكثير مما مضى في تاريخ العصور الحديثة ، بما في ذلك القرن الذي ولد و نضج و تبلور فيه ( 1750-1850 ) ، هذا الاستخدام الكثيف للمصطلح و سيل الكتابات حوله ،  المرتبط بتحديات و حاضنات ثقافية متباينة و متنوعة و أنظمة سياسية مختلفة ، زاد في انتشار كثير من المفاهيم الفضفاضة لهذا المصطلح ، لدرجة ميله لأن يعني كل الأشياء لكل الأشخاص ، حتى أدى إلى التشعب و الخلط في معاني مصطلح المجتمع المدني إلى درجة التناقض .  فكثير من العلماء بدأ يشك في جدوى التعاطي مع هذا المصطلح كأداة تحليل و فهم .

من هنا أرى ضرورة الانتقال من الاستغراق في التعريفات القاموسية للمصطلح ، إلى البحث في تفاصيل السياق التاريخي في القرنين ( 18-19 ) الذي هو تاريخ المصطلح نفسه الذي نشأ نتيجة لمناقشات القرن الثامن عشر حول ميلاد المجتمع الليبرالي أو " التجاري " ،مما يضعنا أمام تساؤل مركب ، ما هي  العناصر الأساسية فيه التي دفعت العلماء و الباحثين و السياسيين إلى إحيائه من جديد ؟ ، و هل سياقات إحيائه هي سياقات واحدة و متشابه ؟ .

مما يعني ضرورة الانتقال المنهجي من الاعتماد على علم و منهج محدد إلى منهجية مركبة من العديد من المناهج العلمية ، مثلما ما يقوم به المؤرخ المختص و الصارم ، وذلك لكي نتمكن بادئ ذي بدأ بوضع الحد على المصطلح نفسه ، و عدم إدغامه في خانة إله من آلهة الصراع السياسي / الأيديولوجي القائم ، ولكي لا يتحول إلى شعار أيديولوجي و غاية بحد ذاته تدار من أجله صراعات تقليدية .

بما أن مفهوم المجتمع المدني ينتمي أساسا إلى العلوم الاجتماعية و الإنسانية ، أي أنه لا يكتسب الدقة العلمية التي تكتسبها مفاهيم الرياضيات و الفيزياء ...إلخ ، فهو بذلك مفهوم قابل جوهريا للجدل حسب تعبير دبليو . بي . غيني ، أي له استخدامات و معان مختلفة و غير مستقرة ضمنيا ، و حتى متناقضة بعضها مع بعض . و هذا من باب التحصيل الحاصل بسبب اندراجه و تطوره ضمن تقاليد فكرية و ممارسات اجتماعية و سياقات تاريخية مختلفة ، و هذا ما يشكل عنصرا حاسما في تعريف المفاهيم التي هي في جوهرها موضع جدل .

و بالتالي علينا الاعتراف المبدئي و الأساسي ، أن ثمة استخدامات متباينة و متنافسة لهذا المصطلح ، مرتبطة بالشرط البشري / التاريخي . فيتغير مفهوم المجتمع المدني مع تغير الموقف الأيديولوجي للمتكلم وشبكة علاقات هذا المصطلح مع المفردات الأخرى في سياق خطاب ما . ويشكل هذا شرطا معرفيا / منهجيا لكيفية التعاطي مع المفاهيم من أجل تسويتها ، ووضع الحد عليها و بلورتها و إدراجها في سياقات نضجها ، وهو ، أيضا ، شرط توسع ساحة الحوار و الحرية الذي يؤمن للاختلاف و التنوع و التعدد و التعارض و التوافق المقومات المطلوبة . و هذا ما يمكن أن يضعنا في خانة الموقع النقدي من السياقات الأيديولوجية في التعامل مع المصطلحات ، وذلك من أين كان مصدرها .

سأحاول في هذه العجالة  أن لا أخوض في الإشكاليات المعرفية / التاريخية التي تتناول موضوع المجتمع المدني الذي يرتبط بعرى لا أنفكاك فيها ، تاريخيا و معرفيا ، بجملة من المفاهيم مثل ( الدولة ، المواطنة ، المجتمع ، الفرد ، حقوق الإنسان ، الملكية ، السياسة ، العلمانية ،الديمقراطية ، الأحزاب ، الجمعيات ، الدستور ، القانون ، النقابات ........)  إذ  يمكن ترك هذا المقال لمقام آخر .

بل سأبدي و جهة نظر في كيفية تعاطي المنظومات الأيديولوجية / السياسية السائدة ( الساحة السورية نموذجا ) مع هذا المفهوم و مع الداعين إليه ، و مع الذين يتبنون مشروع أحياء المجتمع المدني من مثقفين و سياسيين وحركة حقوق الإنسان .

بعد خطاب القسم الذي ألقاه السيد الرئيس بشار الأسد أمام مجلس الشعب ، إبان تسلمه مهامه الرسمية . عاد مصطلح المجتمع المدني ليأخذ حيزا كبيرا من الحوارات الدائرة في الساحة الثقافية و السياسية ، وذلك عبر صفحات الجرائد و المجلات ، أو في المنتديات التي عمت محافظات الوطن ( و التي تم إغلاقها بعد ذلك ) ، إضافة لمشاركة الأحزاب السياسية في هذا الموضوع من خلال صفحاتها الرسمية أو من خلال توجيهاتها الداخلية في هذا المضمار ، وهنا أخص بالذكر أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية( وهي مجموعة أحزاب شكلت تحالفا بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي الحزب القائد للدولة و المجتمع بموجب المادة الثامنة من الدستور )  .

والتساؤل الذي  يفرض نفسه هنا ، لماذا أخذ مصطلح المجتمع المدني هذا الحيز الكبير من الحوارات في  الساحة السياسية و الثقافية في سورية ؟

المتتبع للجدل الدائر حول هذا الموضوع ، تستوقفه ظاهرة " العنف الرمزي " بتعبير بيير بورديو ، في الخطاب الأيديولوجي السياسي ، المندرج في هذا الجدال . حيث لاحظنا كيف استفز هذا الموضوع ( المجتمع المدني ) المنظومات الأيديولوجية التي بدأت بحملة تطهير أيديولوجي ضد وافد جديد لا يتلاءم مع نسقها الأيديولوجي / السياسي ، و الذي يعبر عن إمكانية إنتاج زحزحة ثقافية – سياسية وبالتالي اجتماعية اقتصادية ، يتعرى من خلال "شقوقها " ما أنتجته الشمولية الأيديولوجية و السياسية من زحف للتفقّر طا ل كل حقول المجتمع ، لذلك تحول مصطلح المجتمع المدني إلى مفهوم استقطابي ، الموقف منه يشكل معيار للاصطفاف في إحدى خانتي الثنائيات المانوية  بمنطق السلطة .

وقد لاحظنا تعبيرات هذه المنظومات الأيديولوجي / السياسية  على وسائل الإعلام المختلفة ( دون ذكر الأسماء ) فتكشف نسق خطابها عن تشبعه بمفردات عملاقة مفرطة الكثافة ، تركز في ذاتها الحد الأعلى من الدلالة المندغمة "بالحقيقة" ، إضافة إلى كلمات إطلاقية تحمل في دلالتها كثافة أيديولوجية / أخلاقية  ، مما يدلل ، بزعمها ، على انتماء نسق الخطابات المنافسة لها إلى آلهة الباطل و الضلال و الزيف. فعملت على تخوين العاملين في حركة حقوق الإنسان والداعين  إلى إحياء المجتمع المدني ، واستنفرت لذلك كل أدوات ترسانتها الأيديولوجية و السياسية ، المتشبعة بمفردات إرهاب المنافس لها  ( العمالة ، الخيانة ، المؤامرة ، الانحراف ، ...) .

ولا يخفى على الجميع ، أن الخطاب المجبول بهذه المفردات ، يشكل تعبيرا ذا دلالة واضحة على ظاهرة الشمولية ذات النزعة الإقصائية  و الاستبدادية في الساحة السياسية السورية ، و على مناخ هوس الصراع الأيديولوجي التعبوي ، وهذا ما يفسر لنا " نجاح " دور هذا الخطاب التجييشي و التعبوي العازف على المخيال السياسي / الديني ضد ظاهرة المنتديات و الداعين إلى إحياء المجتمع المدني و احترام حقوق الإنسان في سورية ، وذلك بفرضه رؤية صراعية تستند على المنهج المانوي الذي تتواجه فيه الحقيقة و الباطل ، الخير و الشر ، الوطني ولا وطني. من هنا كان مناضلو  النقاء و التطهير في حالة تعبئة دائمة يخوضون خلالها " حربا " ضد " المهرطقين الجدد " الذين يمتلكون إمكانية أن يتلاعبوا بالعقول و الضمائر على قدر ما يتلاعبون بالمصالح ، و ذلك بعد أن استعار هؤلاء المناضلون صوت المجتمع أو الشعب المحكوم " بثقافة الخوف القطيعية "  من أجل قمع الفاعلين الاجتماعيين ، الحالمين بتغيير نمطية العلاقة القائمة بين السلطة و المجتمع وتفعيل مشاركة المجتمع في الشأن العام ، و سعت من خلال هذا إلى محاولة إلغاء و جودهم المادي و الرمزي ( إلغاء المنتديات ، الاعتقالات ، تهمة الارتباط بجهات أجنبية ،تهديد الوحدة الوطنية ، تهديم قيم وعادات المجتمع .....)   ، لذلك حُوِّلَ " الحوار" في موضوع المجتمع المدني ، الذي استفز استراتيجيات الرفض الأيديولوجية و السياسية و النفسية، إلى مدخل يؤكَّد من خلاله على تخوين الآخر و ارتباطه بالخارج و عدم حرصه على الوحدة الوطنية و ثقافتها النقية . لتعود الساحة الثقافية و السياسية من جديد إلى حالة الانكماش و التوجس و الشك ، و بالتالي إلى نمطية الثقافة التمامية و الواحدية التي ترى في الاستبداد شكلها الأمثل .

من نافل القول " إن كل قارئ أو مستمع لخطاب ما هو ذات غير بريئة و غير حيادية ، لأنها مشكّلة بواسطة عقائد و مبادئ ، تحولت مع الزمن إلى يقينيات لا يطالها الشك أو المس ، وإلى مقدمات أيديولوجية و مقاييس موروثة راسخة في العقل و المخيال و مكونة للوجدان ، و موجهة للإدراك و مكيفة له . هذه العوامل المركبة ، تكون نسق الذات ، وعندما يطرأ على هذا النسق المجهز و الصلب ، مفهوم غير مألوف ، أو نظرة للعقل غير متلائمة مع الموروث المعتاد ، وقراءة سياسية منافسة / معارضة ، تستفز استراتيجيات الرفض لحماية نسق الذات من التفتت و الانحلال . فيستفز الخوف من " التلوث " الرفض المناعي للأيديولوجيات ضد كل و اقعة و كل فكرة تحمل ممكنات الشك بهذه المنظومات ، وهذا ما يدفع تلك الأيديولوجيات إلى تأمين آليات مركبة من أجل الرفض و التجييش و التعبئة من جهة ، و من أجل التهمييش من جهة ثانية ، وهي مستندة على مصادر القوة التي احتكرتها السلطة .

إن المتتبع لحملة " استراتيجيات الرفض " الإيديولوجية و السياسية  التي شاركت في الرد على الداعين إلى تفعيل المجتمع المدني في سورية بمنطوياته المعرفية و السياسية و الاجتماعية . سيلاحظ " نجاح " هذا الرد من خلال " تحقيقه " للهدف المركب لجدلية التهميش و التجييش ، التي تشكل محصلته الواقعية ، إعادة إنتاج لنمط العلاقة القائمة بين السلطة و المجتمع ، بعد إرغام الآخر المختلف على الصمت ( اعتقالات طالت شخصيات مهمة في الساحة السورية ، اعتقال و فصل بعض الطلاب ، تفعيل دور الأجهزة الأمنية ، تفعيل حالة الطوارئ و محاكماتها الاستثنائية ) ، وتجييش المجتمع المستعار صوته من أجل أن يدافع عن تهميشه من جهة ثانية ، و اتبع في ذلك آليات مركبة و معقدة ، سنحاول الإمساك بمفاصلها الأساسية و ذلك بشيء من الاختصار ، و المتتبع لما كتب في هذا المجال سيتمكن معنا من الإمساك بهذه المفاصل .

بادئ ذي بدء، أقدمت استراتيجيات الرفض  بمحاولة أيديولوجية ، محكومة بمصالحها ، على "تجريد" الأطروحات المنافسة لمصطلح المجتمع المدني  و حججها و ركائزها المنهجية و السياسية و الأيديولوجية من أهليتها المعرفية و العقلانية ، رغبة منها ، استنادا على هذه المحاولة ، تجريد المثقفين و السياسيين و حركة حقوق الإنسان و المهتمين من الأهلية الوطنية ، ليتم تحويلهم إلى خصوم يشك بهم و بتوجهاتهم الفكرية / السياسية . وهذا يعني بكلام آخر ، إن هذه الاطروحات لا تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار ، و الناطقين بها ضالون و مخطئون ( ووضعوا أحيانا في خانة الكاذبين ) وبالتالي فاقدين للمصداقية المعرفية / الوطنية ، وكل ما يصدر عنهم يستثير آليا الرفض العقلي و الأخلاقي بآن . من هنا كانت محاولات استراتيجيات الرفض " البرهان " على استناد الأفكار المنافسة / المعارضة لمصطلح المجتمع المدني إلى استدلالات زائفة ، و الناطقين بها جهلة و أصحاب " النية السيئة " . و هنا يمكننا ملاحظة اختلاط الازدراء العقلي اختلاطا حميميا بالازدراء الأخلاقي ، وهذا ما لاحظناه في كثير من المحاضرات في المراكز الثقافية الرسمية التي شارك فيها شخصيات رسمية و رجال دين   ، و هو ما يسمح لهذه " الاستراتيجيات " بأن تحاصر مواقع الانطلاق لكل ما يمكن أن يمسها أو يعارضها أو ينقدها .

إن محاولة المثقفين و المهتمين بالشأن العام بتناول التحديات الداخلية من زاوية نقدية ، اعتبر خروج عن الدور المفروض من قبل السلطة و المنظومات الأيديولوجية الرسمية ، وبهذه المحاولة التي  يبدون فيها و جهات نظر في السيناريوهات الممكنة التي يمكن أن تتجاوز فيها سورية أزماتها المركبة ( دون إضفاء حكم قيمة على هذه الآراء ) ، حاولوا من خلالها إيصال رسالة مزدوجة وهي ذات دلالة واضحة " لمؤسسات الدولة " ،وهي أن المجتمع السوري و صل إلى سن الرشد الذي يؤهله للاندراج في حوار يتمحور حول مستقبله و مستقبل هذا البلد ، كما عبرت عن مدى التململ من تاريخ الوصاية الأبوية القاهرة التي مارستها السلطة على المجتمع التي كانت ترى فيه " طفل " لا يعي مصالحه و قضاياه . وإزاء هذه  " الرسالة " ، أيضا ، كان رد السلطة عبر أجهزتها المختلفة  ، ذا دلالة واضحة على نهج الإصلاح الذي تبنته السلطة ، الذي بدأ  بإغلاق المنتديات و الاعتقالات التي طالت رموز مهمة سياسية و فكرية و حقوقية ، و التضييق على الفعاليات المدنية و حركة حقوق الإنسان في سورية .

لذلك وصمت استراتيجيات الرفض المالكة للسلطة هذه التوجهات التي تعاطت بشيء من النقد مع القضايا الداخلية ، بأوصاف التخوين و العمالة ، التي تخدم، بحسب منطق السلطة ، مباشرة أو موضوعيا الإمبريالية و الصهيونية . و ذلك لأن كتابات المثقفين وبياناتهم و بيانات حركة حقوق الإنسان والمنتديات اهتمت بالتحديات الداخلية - القضايا الصغرى - ( الحريات العامة ، الديمقراطية ، حالة الطوارئ و الأحكام العرفية ، قانون الأحزاب ، سيادة القانون ، حقوق الإنسان ، قضايا الفساد ...) على حساب القضايا الكبرى ( الصراع مع الإمبريالية و الصهيونية ، الوحدة العربية ، تحرير الأراضي المحتلة ،......) .

رغم تأكيد هذه الكتابات على أن جذر " القضايا الكبرى " هو " القضايا الصغرى " و بالأحرى إن القضايا الصغرى هي ضبطا القضايا الكبرى ، و إلا تحولت القضايا الكبرى إلى شعارات تجييشية تعبوية فارغة المضمون السياسي و الواقعي ، و مع الزمن تفقد بريقها الأيديولوجي، فمسار فقدان كرامة الفرد و قمع الحريات و انتهاك حقوق الإنسان ، واستمرار حالة الطوارئ و الأحكام العرفية من عام 1963 وهيمنة الفساد ....لم تحرر الأراضي المحتلة ولم تحقق أهداف الثورة .... ، و تاريخنا مع الصراع العربي الصهيوني و العداء للإمبريالية خير دليل على ذلك . حيث كانت مجتمعاتنا على الدوام خارج المعادلة السياسية ، و في خانة العطالة .

من هنا كانت حرب استراتيجيات الرفض على المهتمين بتفعيل المجتمع المدني ، حاولت من خلالها التأكيد على أن  مبادئهم الفكرية و الأخلاقية و السياسية ليست سوى تمويه من أجل أهداف أخرى        " أكف بيضاء لأيادي سوداء "  ، بالتالي هي مصابة برذيلة النفاق و الكذب ، فدعوة هؤلاء لانخراط المجتمع في الحوارات المرتبطة بمصيرهم و إلى إحياء المجتمع المدني في سورية ، اعتبرت دعوة من أجل الفتنة الطائفية و تفتيت اللحمة الوطنية ، وبزعمهم ، هي دعوة منافية لكل القيم و المبادئ التي أنتجت الوحدة الوطنية في سورية و المناقضة أيضا لقيم و أخلاقيات مجتمعاتنا الموروثة و الأصيلة و النقية . فنصبت بذلك السلطة نفسها  ،و مبادئها الثقافية و الأخلاقية ، معيار قيمي أساسي يحدد مدى انتماء الفرد لوطنه ، و كذلك تحدد القيم و المبادئ المفترضة ، التي يجب عليه أن يتحلى بها .

بهذه المنهجية أزداد تجريد الأفكار المطروحة من قبل الداعين للمجتمع المدني من الأهلية الأخلاقية حدة ، عندما تم نقل " الحوار " من المستوى المعرفي / السياسي إلى المستوى الأخلاقي . و هي من أكثر التوجهات خطورة ، في هذه اللحظة التاريخية التي تمر بها المنطقة و ربما سوف نحصد نتائجها المدمرة لاحقا  .

وفي سياق محاولة المثقفين هذه ، اعتبرت المسألة تخطيا للخطوط الحمراء و تجاوزا للسقف السياسي للمنظومات الأيديولوجية الرسمية ، و بالتالي انتهاكا للمقدسات ، مما وضع مفهوم المجتمع المدني ، المنافس للرؤية الرسمية ، و الناطقين به في خانة الضلال الأخلاقي و الانحراف القيمي ، وهنا – على التحديد – مس " الدفاع المناعي الأيديولوجي / المذهبي " لهذه المنظومات القائم على تقديس أسسه و ركائزه و إنجازاته ، مما يجعل هذه المنظومات محمية بحزام صلب من التابو ينشر حوله الترهيب ، محولا الحوارات بين و جهات النظر المتباينة و المختلفة إلى صراع بين آلهة الخير و آلهة الشر ، وكل ما ينبثق عنهما يكتسب الصفة الاطلاقية ، فكل وجهة نظر تتصل بالرؤية الرسمية محملة بكل المضامين الأيديولوجية الإيجابية و بالتالي تكون جديرة بالاحترام و الإعجاب ، و كل تعبير أو رؤية تضمر نقدا أو معارضة ترفض و يندد بها بوصفها تشكل انتهاكا للقداسة ، وهذا ما يثير الرعب و الكراهية " إنها إهانة للوطن " ، " انتهاكا للوحدة الوطنية " ، " خيانة للقضية القومية " ، وبذلك يتم إرغام هؤلاء " الدنس " على السكوت ، مما أدخلنا في مناخ محموم من الهوس الأيديولوجي –السياسي الذي يتحول فيه الحوار الفكري – السياسي إلى قضية نافلة وغير مجدية وليتم إطلاق يد الأجهزة الأخرى التي كانت تنتظر الأوامر بفارغ الصبر   ،وتتم عندئذ الدعوة إلى استئصال " الاستفزازيين " " أصحاب الأيادي السوداء " و " المتآمرين على الوطن " ، في مناخ ثقافي و سياسي ملائم  ، حُمل فيه اصطلاح المجتمع المدني بدلالات أخلاقية و سياسية رذيلة و باطلة ، ووضع الناطقين به موضع اتهام و استهجان لأنهم مهرطقين و منحرفين ، فحكم على هذه المناقشات بالصمت و على بعض المثقفين و السياسيين بالسجن ، ليكونوا درسا لمن لا يعي دروس السجن .

هكذا و بهذه الآليات المركبة و المعقدة ، تكون استراتيجيات الرفض الأيديولوجية قد حققت أهدافها ، أولا : بنقل الحوار من المستوى المعرفي / السياسي إلى المستوى الأيديولوجي / الأخلاقي ، ثانيا : " فقد "  بذلك مفهوم المجتمع المدني و بعض مكوناته الواقعية المتشكلة في بلادنا ، التي حاول البعض أن يعيد إليها الحياة ، مصداقيته في رحى آليات التجييش و التهميش ، التي ساهمت في إسكات الأصوات " الشاذة " من جديد ، لتعود هذه المنظومات الأيديولوجية السياسية  تحتفل بنشوة النصر و التأمل في صدى صوتها الوحيد و هو يجلجل في صقيع هذا الوطن ثالثا .

و أخيرا يمكن القول : بأن القضية ليست في مفهوم المجتمع المدني ، أو غيره من المفاهيم التي طفت و تبلورت في سياق تجربة تاريخية و اجتماعية مختلفة . بل أنها أبعد من ذلك و أعمق ، إنها تكمن في تلك الترسانة الأيديولوجية الصلبة التي تعيش و هم أن بطن الذات هو المصدر الوحيد للحقيقة ، وبأنها المعيار الوحيد لانتماء الإنسان إلى وطنه . مما أجهض مناخات الحوار الممكنة . وهي أيضا مأساة مجتمع يجييش من أجل أن يتغنى بتهميشه .