هل بالإمكان وضع آليات بديلة ضد انتهاكات حقوق الإنسان؟
هل بالإمكان وضع آليات بديلة ضد انتهاكات حقوق الإنسان؟
د. هيثم مناع*
في أواخر الثمانينات، وأثناء النقاش مع الفرع الفرنسي لمنظمة العفو الدولية حول جدوى كتابة الرسائل لرؤساء الدول ووزراء الداخلية والعدل والأمين العام للأمم المتحدة الخ .. قالت لي سيدة قاومت في أثينا أثناء الحرب العالمية الثانية وحقبة الجنرالات: "حتى الدكتاتورية تتجنب تكرار نفس الأساليب"، لم لا تقدم محاضرة في الذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية حول تجديد وسائل النضال. وارتجلت ذلك بسرعة بعد شهر من الطلب، وكم تمنيت لو لدي نسخة من التسجيل وأنا أكتب هذه المداخلة. فقد كانت هناك أزمة حقيقية في عمل المنظمات غير الحكومية آنذاك: مؤسسات تريد الانعتاق من تكلسها التاريخي، أخرى تبحث عن مكان متميز يعطيها هويتها الخاصة وصعود غير متكافئ لفكرة التشبيك networking والتنسيق في أزمة: بين دول الشمال ودول الجنوب، في أزمة العلاقة بين اليساري والحقوقي، في تقاطعات النضال النقابي مع المنظمات غير الحكومية، بين أشكال التمرد على الدولة البيروقراطية في أوربة الشرقية وبرنامج النضال في دول أوربة الغربية وإعادة صياغة وسائل النهوض فيما عرف بالعالم الثالث ..
نهاية الحرب الباردة أعطت أيضا قوة عظمى واحدة لا تحتاج لإثبات "حسن نيتها" في أي مجال أخلاقي أو قانوني. هل من الضروري التذكير أن أحادية القطب كانت دائما السد بين القوة والحق باعتبار الأخير سلاح الضعيف!
لا يمكن لأحد القول اليوم بأن تعبيرات النضال الأرقى في دول الاتحاد الأوروبي وشمال أمريكا يومئذ هي تلك المنسجمة أو الممولة أو المدعومة من المنظومة السوفييتية. وما من شك بأن حرية المبادرة في المجتمع الرأسمالي لم تنحصر في اقتصاد السوق. لذا بالإمكان الحديث في الثمانينات والتسعينات، على الأقل على صعيد السياسة الوطنية والإقليمية في الاتحاد الأوروبي، عن قوة مادية مدنية تحدد بنفسها برنامجها وأولوياتها، دون أن يعني ذلك أن ما حددته ينسجم بالضرورة مع قيم مبادئ حقوق الإنسان. بتعبير آخر، هناك ترابط وتداخل في عملية تكون الوعي الجماعي والسلطة السياسية بين ما يسمى بالمجتمع المدني والرأي العام والمجتمع السياسي (في السلطة والمعارضة) وجماعات الضغط المؤثرة. فأي نضال من أجل قضية حقوقية يفترض فيه أن يحدد بدقة موقع كل من عناصر هذه العملية وإمكانيات التأثير فيه بالحوار أو الصراع السلمي أو المبارزة الذهنية والثقافية. بهذا المعنى نجحت عدة بلدان أوروبية في دخول عالم المحكمة الجنائية الدولية بدون قيود، في حين تعثرت المسيرة في بلدان مثل فرنسا لجعل الدخول ينسجم مع مخلفات حروب فرنسا الكولونيالية. أي رهن الوضع الفرنسي بآخر لحظة لاعتبار طلب الانتساب ملزما؟ هذا الاستثناء الفرنسي السلبي نجده أيضا في اتفاقية حقوق العمال المهاجرين حيث بذل لوبي الدول النفطية والدول الشمالية ما يستطيع لتأجيل دخولها حيز التنفيذ. بالتأكيد وفي كل معركة حقوقية، تجري عمليات اصطفاف وتحالفات ad hoc محدودة الزمان والموضوع وتشبيكات مؤقتة أو طويلة الأمد. ولكن لا يعني ذلك بالضرورة تشكل قوى مادية فعلية مؤثرة في الرأي العام أو القرار السياسي. ولعل في مثل الزوبعة الأوروبية المسماة بالشراكة الأوروبية المتوسطية عبرا ودروسا تظهر مدى محدودية القدرة على الفعل في غياب استراتيجيات العمل الواضحة والمقبولة والمنطقية، وفي غياب الحد الأدنى من الانسجام بين العهد السياسي والمدني المطروح على المجتمعات. فقد رصدت المفوضية الأوروبية مبالغ هائلة ووضعت تحت تصرف كل من يدخل في سقف برنامجها تسهيلات كبيرة وحاولت أن ترافق نشاطها السياسي بتحركات موازية للمجتمعات المدنية. إلا أن السياسة المحددة سلفا والخطوط الحمر المرسومة من قبل، ومحاولات توظيف الفضاء غير الحكومي في خدمة السياسة الرسمية للمفوضية الأوروبية حوّل الهياكل العاملة في نطاق المشروع الأوروبي المتوسطي إلى نخب مستفيدة ولكن معزولة عن مجتمعاتها بحيث انزلقت العديد من المنظمات والجمعيات الطموحة والواعدة إلى مؤسسات محدودة السقف محدودة الهدف مقيدة البرنامج تحقق اعترافا أوروبيا محدودا بصيغ نشاط أهلي متوسطي يقبل بشروط الأمر الواقع الملطف بالدفاع عن ناشط هنا وتمويل منظمة هناك. دون أن تشكل قوة تأثير وتغيير في أية عملية مناهضة فعلية للفساد والاستبداد وإعادة صياغة طبيعة العلاقة بين المقاومة المدنية وإخطبوط السلطة السياسية. هل يمكننا أن نتصور تجميد عضوية إسرائيل في الشراكة الأوروبية المتوسطية؟ هل يمكننا الحديث عن عقوبات لهذا البلد المتخم بالمساعدات وعقود شراء الأسلحة المدمرة؟ هل أصبحت مهمة المفوضية الأوروبية تدجين المنظمات غير الحكومية لتتجنب مطالب مشروعة أصبحت الشرط الواجب الوجوب للأمن المتوسطي والسلام الدولي؟؟ بالطبع أنموذج التمويل الأمريكي لبعض المراكز في العالم الإسلامي لا يختلف في محدوديته، إن لم نقل هو أسوأ بكثير. وقد لا حظنا ما آل إليه وضع بعض المؤسسات المصرية أو مصير الأشخاص الذين صرف لهم وعليهم الملايين في الانتخابات العراقية الأخيرة رغم حدوثها تحت حراب الاحتلال.
يعرّف القانون الإنساني الدولي الحرب بين الدول والحرب الأهلية وحروب التحرير. ولا يوجد في العرف والقانون الدولي ما يسمى بالحرب على الإرهاب. هذه الحرب التي فرضت حالة استثنائية على الصعيد العالمي هزت جملة الإنجازات الحقوقية في نصف قرن. ولعل الاحتقار الأمريكي للمظاهرات المليونية ضد الحرب على العراق قد زعزع ليس فقط الثقة بالمؤسسات الدولية والإقليمية (كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي) التي اكتفت بالصمت واعتبرت ذلك نصرا لمبادئها، وإنما أيضا الثقة بالنضال السلمي للمجتمعات المدنية على الصعيد العالمي. وما زلنا حتى اليوم نعيش أزمة الثقة هذه رغم الفشل الذي منيت به آلة الحرب الأمريكية البريطانية سواء في تبيان السبب المباشر لاحتلالها (أسلحة المار الشامل) أو في بناء عراق جديد موحد وديمقراطي (ما أصبح الذريعة لاستمرار الاحتلال). حيث تحول هذا البلد في ظل الاحتلال إلى مستودع للموت. أليس من المؤلم أن يقتل في العراق أثناء محاكمة صدام حسين على جريمة الدجيل التي راح ضحيتها قرابة 143 فقيد، 85 ضعف هذا العدد في ربوع العراق المحتل؟
لقد عولمت الإدارة الأمريكية حالة الطوارئ وهمشت الإنجازات الأساسية والضرورية لانتقال حركة حقوق الإنسان على الصعيد العالمي من مجرد فضاء مختص بالتعريف بمواثيق ورصد انتهاكات ووصف أوضاع إلى القدرة المادية على التدخل من أجل مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان: أي المحاسبة القضائية ووضع حد للإفلات من العقاب. ونلاحظ اليوم أن المحاسبة في جريمة التعذيب التي تراجعت ممارسته في الاتحاد الأوروبي قبل 11 سبتمبر تتراخى مع عودة هكذا ممارسات في أكثر من بلد أوروبي بدعوى محاربة الإرهاب. وأن بلجيكا قد اضطرت للتراجع في صلاحيات الاختصاص الجنائي العالمي Universal Jurisdiction لتدخل الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية ومجموعات الضغط الموالية لهما من أجل وقف محاكمة آرييل شارون. ولا ندري فيما إذا كانت هذه المهزلة ستتكرر عندما يقوم ضحايا قانا الثانية ومروحين وصريفا والشياح بإقامة دعاوى قضائية ضد وزير الدفاع الإسرائيلي ورئيس حكومته في البلدان التي مازالت تقر بهذا الاختصاص.
آليات مقاومة انتهاكات حقوق الإنسان متعددة، بعضها أصبح ضعيف التأثير هزيل النتائج، وبعضها ما زال يحتفظ بقوته. ولكن المشكلة الأساسية اليوم هي في تحديد معالم البرنامج النضالي أكثر منها في تطبيق الآليات. ولا شك بأن أمامنا اليوم مشكلات موضوعية وذاتية من الضروري التطرق لها من أجل الوصول إلى وسائل جديدة وتعبيرات نضالية قادرة على تحقيقها.
آ - العلاقة بين حقوق الإنسان وحقوق الشعوب
جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان باعتباره الترجمة الأقرب للقراءة الغربية للحقوق السياسية والمدنية. وعلينا انتظار العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عام 1966 لتسجيل توازن ضروري بين حقوق الأفراد وحقوق الشعوب. وقد أصرت التجربة الإفريقية منذ بدايتها على التوازي بين حقوق الأشخاص وحقوق الشعوب في الميثاق الإفريقي وفي المحكمة الإفريقية. في حين ما زالت حقوق الشعوب في الثقافة الأمريكية الشمالية مفهوما فضفاضا رغم محاولات الرئيس الأمريكي ويلسون والسيدة إليانور روزفلت وغيرهما إدخاله في القاموس السياسي الحقوقي الأمريكي. ويمكن القول أن هذا القصور قد ترك آثاره في الموقف والقراءة الأمريكية الرسمية لحقوق الإنسان التي لم تقبل بعد حق التنمية والعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وما زالت تتعامل بريبة مع تعبير حقوق الشعوب. وحتى لا نذهب بعيدا عن هذه القراءة الليبرالية للديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن بالإمكان البحث عن جذور مشتركة لمفاهيم مشتركة عبر ما يقترحه أكثر من مفكر وحقوقي أمريكي منهم على سبيل المثال لا الحصر جون راولز John Rawls في دراسته The Law of Peoples (لعام 1993) حيث يقترح المبادئ التالية:
- الشعوب (المعبر عنها بالدول) حرة ومستقلة، وعلى كل شعب احترام حرية واستقلال غيره من الشعوب.
- الشعوب متساوية وهي صانعة الاتفاقيات التي تلتزم بها.
- تمتلك الشعوب الحق في الدفاع الذاتي وليس لها الحق في الحرب.
- على الشعوب احترام واجب عدم التدخل.
- على الشعوب احترام الاتفاقيات والمعاهدات التي توقعها
- على كل الشعوب احترام مقيدات نوعية في سلوكها في الحرب المفترض أنها دفاع عن الذات.
- على الشعوب احترام حقوق الإنسان.
هذه النقاط، غير الكاملة بنظر صاحبها ونظرنا، يمكن أن تشكل مادة نقاش لبلورة أسس مشتركة لحق الشعوب بين مختلف الثقافات والبلدان. باعتبار أن ميثاق الأمم المتحدة، الذي يقر بأهمها، لم يعد محترما من السلطة التنفيذية والسياسية الأعلى فيه (مجلس الأمن) الذي تحول لتعبير جديد للدكتاتورية.
ب - الحركة الإسلامية السياسية والحركة المدنية
لا يكفي أن تكون محقا لأن تنجح في إقامة العدل. ولا شك بأن مهمة القوى التي تحمل قيما ومبادئ نبيلة أكبر بكثير من مهمة تلك التي حسرت سقفها في برنامج ضيق الأفق ضيق المساحة لا يترك سوى الخراب والدمار للآخر بحجة تعزيز الأمن القومي وإضعاف العدو. ما قاله غورباتشوف للغرب في سنة 1987 "سنقدم لكم خدمة، سنحرمكم من عدوَ" .. لم يتطلب كثير وقت. فأنصار العدو الجديد كثر وأسبابهم مختلفة ولكن جبهتهم مهزوزة وقدرتهم على التعبئة مرتبطة بإثارة غرائز الخوف وتوظيف الوعي المدنس والمشوه لصورة الآخر. لذا تحتاج عملية زعزعة فكرة "الإسلام العدو" إلى إستراتيجية عمل ثقافية وحقوقية وسياسية تتجاوز سقف الطائفة والمذهب والأصل القومي والحدود الوطنية. ولعل المثل الفلسطيني يكثف العديد من إشكاليات النضال المدني والسياسي دفاعا عن حقوق مشروعة خاصة بعد نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية.
فما يحدث في فلسطين اليوم، من عملية تصفية للسلطة السياسية الفلسطينية (التي هي كما نعلم، وليدة التوافق الأوروبي الأمريكي العربي الرسمي) ليس مجرد انتهاك لحقوق الإنسان. نحن أمام كارثة سياسية وأمنية إقليمية بكل معنى الكلمة. كلمة اتفاق أو عهد أو عقد لم يعد لها أي معنى في ذهن المواطن العادي. يعتقل الوزير والنائب ورئيس المجلس التشريعي ويحاكم أمام محاكم إسرائيلية بتهمة الانتماء لحركة سياسية نجحت في أكثر الانتخابات شفافية وأمانة في العالم العربي منذ عام 1956. الطبقة السياسية الحاكمة والمحكومة في عالمي العرب والغرب تتفرج أو تستنكر ببيان، الفضاء غير الحكومي يستنكر، لكن لا يوجد أي رد متكافئ مع العدوان على الوجود السياسي الفلسطيني. هل السبب في تواطؤ الإدارة الأمريكية الكامل مع حكومة أولمرت فقط أم أن هناك خلل وظيفي في ما يفترض أن يشكل جبهة مقاومة مدنية لحماية الشعب الفلسطيني وممثليه؟
في أول مظاهرة نظمتها اللجنة العربية لحقوق الإنسان مع أحزاب يسارية فرنسية ومنظمات التضامن مع الشعب الفلسطيني في باريس بعد ضرب محطات الكهرباء وإطباق الحصار على قطاع غزة لم تحضر أية قناة فضائية عربية رغم وجود ثمانية إلى عشرة آلاف متظاهر، وقد خضنا نقاشا حقوقيا مع عدة منظمات دولية مثل منظمة العفو الدولية من أجل وقف بياناتها المتوافقة مع المواقف الحكومية الغربية في حديث مخجل عن "الرهينة شاليط". ولا أخفي أننا لم ننجح في بناء شبكة واسعة للتضامن مع فلسطين عشية انعقاد مجلس الأمن لاتخاذ القرار 1701 حتى لا تتوجه الأنظار إلى لبنان وحده ويجري تغييب الملف الفلسطيني.
لكل هذا أسباب موضوعية وذاتية من المهم تناولها ولو بسرعة لأخذ فكرة عن نقاط القوة والضعف في الجبهة المفترضة في مواجهة العدوان:
- مأساة التطبيع مع التدمير المنهجي للمجتمع والبنيات التحتية الفلسطينية: سواء بحالة عجز أو اعتياد، لم تعد جرائم الحرب الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني موضوع استنفار ولم تعد القضية الفلسطينية تعبير جوهري عن طبيعة الصراع في المنطقة. حتى مؤسسات إسلامية الطابع، مثل "الحملة الدولية لمناهضة العدوان"، لم تكن في مستوى الحدث أبدا وبأي معنى من المعاني. فكيف في جبهة المنظمات الأوروبية الصديقة التي دعمت القضية الفلسطينية باستمرار تحت راية دولة ديمقراطية علمانية في وجه دولة طائفية إسرائيلية واهتزت مع وصول حماس للسلطة. حماس التي صنفت رسميا في دول الاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية.
- عدم تمكن حركة حماس حتى اليوم من التحول إلى قوة جاذبة للفضاء غير الإسلامي. فمن المفهوم أن تركز الحركة على جمهورها الطبيعي وأن تبني شبكات صلبة في العالمين العربي والإسلامي تعتمد عليها لأي تصور استراتيجي. إلا أن أي حركة سياسية قيادية فلسطينية محكوم عليها بالعالمية للتمكن من كسر طوق أقسى حصار إعلامي ومؤسساتي تمارسه أكثر مجموعات الضغط في عالمنا قوة وتنظيما، ونقصد اللوبي الموالي لإسرائيل. من هنا ضرورة امتلاك خطاب حقوقي عالمي وثقافي إنساني يفتح الباب لحوارات واسعة وبناء شبكة علاقات جد ضرورية مع الحركة المدنية المناهضة للهيمنة الأمريكية والرافضة لوصاية مجموعات الضغط والمطالبة بشرعية دولية جديدة أساسها إقامة العدل.
- غياب التصور الاستراتيجي لمواجهة الحرب على الإرهاب، الأمر الذي جعل كل من شارك الإدارة الأمريكية خطابها الديماغوجي في هذه الحرب المنتجة للإرهاب، يطأطئ الرأس حرصا على استقرار نظام حكمه. هناك حالة رعب سياسي من التصنيف في معسكر الشر، القائد الليبي يعلن توبته عما فعل وعمّا لم يفعل، الحكومة السعودية تقبل بالطلبات الأمريكية دون أي تحفظ، جرت مقايضة قرار مصر السيادي ببقاء أسرة الرئيس في الحكم .. الأكثر احتراما للنفس هو الصامت بانتظار هدوء الهيجان الأمريكي. في وضع كهذا، مهمتنا وضع حد لتعبير الشارع العربي الذي أنتجه الوضع التسلطي العربي من أجل بناء مقاومة مدنية لا تقبل بأقل من حرية التعبير وحق التنظيم والمشاركة للعودة إلى تاريخ ينتظرها طرفا فيه لا مجرد صرخات قليلة الفعل محدودة الأثر. هذه الحقوق لم تعد في عصرنا موضوع مطالبة، بل هي موضوع ممارسة. وتحتاج إلى المبادرة اليومية للمشاركة. لقد أعطت المقاومة اللبنانية زخما كبيرا لمبادرات جديدة، وزجت بمئات آلاف الشبيبة إلى الفضاء السياسي والمدني، ومن الضروري أن تكون العتلات المنظمة لترجمة هذه القدرات الجديدة على مستوى الفعل
ج - عولمة حالة الطوارئ
منذ أخذت كلمة العولمة حقها في القاموس السياسي والثقافي اليومي، كان بعدها القضائي غائبا، بل لعل هذا الغياب جزء أساسي من عملية إعادة صياغة أشكال الهيمنة الداخلية والإقليمية والدولية. ويمكن القول أن الطرف الأقوى في المعادلة الدولية اليوم، الولايات المتحدة الأمريكية، لم تعد تتعامل مع العدالة الدولية أو منجزاتها في نصف القرن الماضي إلا من موقع الغلبة، جاهدة للالتفاف على المحكمة الجنائية الدولية الناشئة واتفاقيات جنيف والعرف الدولي وابتزاز الأمم المتحدة والحصول بالقوة والضغط على قرارات من مجلس الأمن للقيام بما تشاء. وعندما لا تفلح في الحصول على قرارات أممية تبرم الاتفاقيات الثنائية أو التحالفات المحددة في الزمان والموضوع ad hoc بما يتناسب مع مصالحها الاقتصادية والجيو إستراتيجية.
لتوضيح معالم هذه السياسة، نستعرض بعض الأمثلة العيانية، خاصة في السنوات الأخيرة بدعوى الحرب على الإرهاب، لإرهاب الحكومات وإخضاعها لمطالبها:
- إصدار مجلس الأمن القرارين 1487 و1422 ينص على عدم ملاحقة العاملين في قوات حفظ السلام من الأمريكيين بتهم جرائم الحرب وغيرها.
- إبرام اتفاقيات ثنائية مع دول صدقت على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كي لا يتم محاسبة أو ملاحقة أمريكيين على أراضيها.
- توقيع القرار 17 من بريمر الحاكم الأول في العراق الذي يضع قوات الاحتلال فوق المحاسبة والقانون في العراق.
- التمسك برفض تشكيل لجنة دولية للإشراف على الانترنت في قمة المعلوماتية الأخير كبديل لهيمنة دولة واحدة على هذا القطاع.
- اتخاذ قرار من المستشارين الأمريكيين بتعريف خاص لجريمة التعذيب للالتفاف على ما وقعت عليه هي نفسها، أي اتفاقية مناهضة التعذيب: "المقصود بالتعذيب وفق هؤلاء، هو إنزال أذى بدني بشخص بشكل يؤدي إلى تعطل عضو من أعضاء جسمه. أما إذا لم يحدث تعطل أو تلف لأحد أعضاء الجسم فإن وسائل الاستجواب المستخدمة لا تعتبر تعذيبا كما لا تخالف أي قانون أميركي أو دولي أو أية معاهدات معمول بها بهذا الشأن".
- رصد الإدارة الأمريكية العمليات المصرفية في 7800 مؤسسة بنكية في العالم.
- فرض قرار يطالب بكشوف كاملة ودقيقة على الجمعيات الإنسانية والخيرية في العالم الإسلامي والتي تقوم بالدور الذي يفترض من الحكومات أن تلعبه في مواجهة الفقر والبؤس، بما أدى لإقفال بعضها أو تجميد أموالها.
- اتخاذ قرار بتعهد أية جمعية غير حكومية تنال مساعدة أمريكية أهلية أو حكومية بعدم التعامل مع أي طرف تتهمه الإدارة الأمريكية بالإرهاب.
- استصدار قرارات تخول لها أن تتسلم خارج القضاء من تشاء من الأشخاص من غير مواطنيها وعندما تشاء ودون حتى تقديم دليل على اتهاماتها له.
هذه القرارات، كالعديد غيرها، صيغت بنفس العقلية ولنفس الأغراض، بما أودى لفرض ما يشبه حالة الطوارئ على الصعيد العالمي.
في ظل الأزمة الحالية التي لم تعرف البشرية مثيلا لها منذ صعود النازية، هناك ردود فعل لا تتجاوز الانكفاء إلى صيغ عصبية للدفاع الذاتي والانتساب العضوي والانطواء على النفس وخوف الآخر .. أي الانغلاق الطوعي على أمل البقاء بأي ثمن. وأخرى مختلفة تماما تعتمد إعادة بناء مقومات المقاومة على أساس يجمع بين حمل القيم الأرقى للعدالة الدولية والقيم الذاتية لإقامة العدل. باعتبار هذا المركب الديني والدنيوي، الخاص والعام، جزء أساسي من عملية تشريح الوضع البشري غير المتكافئ أولا، العلاقات بين الدول ثانيا، وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة على المدى المتوسط والبعيد.
العدالة في هذه المقاربة ليست فقط الرد الوحيد والأقوى على البربرية، بل هي الأساس لإعادة الاعتبار للمواطنة والحريات الأساسية كهمّ مركزي للشعوب المقهورة، كذلك تأصيل علاقات مدنية جامعة قادرة على جعل مقاومة العدوان عنصر مقاومة للمذهبية والطائفية والشوفينية. عدالة تجمع بين السياسي والاجتماعي ولا تفرق بين العلماني والإسلامي، بين الأمريكي اللاتيني والإفريقي. عدالة الجبهة الأوسع من أجل مناهضة عنجهية القوة. هذه الرؤيا الإستراتيجية ضرورية لنجاح التقنيات اليومية للنضال. فبدون تصور قادر على التعبئة والتأثير، تتحول التقنية إلى أداة محدودة القدرة على الفعل.
إن غياب الطابع التمثيلي لأكثر الحكومات في العالم الإسلامي أو تأصيل حالة السلطة السياسية التابعة، جعل المواطنة والمقاومة تحدث خارج الدولة وبمواجهتها أو على الأقل بمعزل عنها. وفي وضع كهذا لا بد من إقامة أوسع تحالف بين ضحايا النظام الدولي السائد ووضع تصورات أساسية لخطوات نضالية قادرة على رفع مستوى الرد إلى مستوى التحدي:
* أول تعبيرات استعادة المبادرة، في اللجوء إلى تشبيك حقيقي للقوى والطاقات من أجل الخروج من منطق الخريطة الداخلية التي تعطي المعتدي الإسرائيلي والأمريكي حالة تفوق اصطناعية، إلى التصور الشامل. أي الانتساب لأمة كبيرة وحضارة عظيمة، عودتها لمكانتها جزء لا يتجزأ من مقاومة الظلم على الصعيد العالمي. أمة لن تقوم إلا بكل قدراتها وإمكانياتها البشرية. ولهذا ترفض تصنيف كبدها إرهابا، وقلبها عنفا، ونضالها تطرفا. هذا الأمر يتطلب اكتشاف نقاط القوة في الحضارة الغربية والتفاعل معها عبر اعتبار كل إنجاز قضائي لها إنجاز للبشرية جمعاء وكل تراجع لها عار عليها وحدها. يكون ذلك بالتمعن في صلاحيات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ومتابعة اللجان الفرعية للحقوق والحريات لوضعها عند مسؤولياتها في كل أزمة أو انتهاك. كذلك البحث في القوانين المحلية عما يمكن اعتباره خدمة للعدالة داخل وخارج حدود البلد المعني.
* ثاني التعبيرات، البحث عن سبل استنفار كل الطاقات لكسر الحصار الإعلامي على المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان. باعتبار أن ثورة الاتصالات ما زالت في فترة انتشار أفقي، ويصعب على أي قوة مهما عظمت، أن تغلق إمكانيات التعريف بالرأي الآخر. وفي هذا النطاق، يبدو لنا من الضروري وضع إستراتيجية إعلامية جديدة. منطلقها المعطيات الأحدث لطبيعة الانتهاكات الإسرائيلية والأمريكية، وأثرها على القانون الدولي والسلام العالمي والاستقرار الإقليمي. في توظيف لشاشة الكومبيوتر والموبايل، أي تجاوز وسائل الإعلام التقليدية، إلى جانب دخول عالم الفضائيات بشكل أكثر قوة.
* ثالثا، الدفاع عن ثقافة المقاومة كحق أساسي من حقوق الإنسان. ومتابعة موقف المنظمات الشمالية لحقوق الإنسان من القضية الفلسطينية والوضع اللبناني والاحتلال الأمريكي للعراق ورصد كل تهاون أو تواطؤ مع الاحتلال والظلم.
* رابعا، تشجيع روح التبرع والتطوع. هذه الروح التي تحاول مؤسسات التمويل قتلها عند المواطن العربي، وتحاربها الدكتاتوريات العربية بكل الوسائل، كونها تعيد الثقة بالمواطنة والمبادرة المجتمعية.
* خامسا، لا بد من الرد على انتهاكات الطبقة العسكرية السياسية الإسرائيلية والإدارة الأمريكية للقانون الإنساني الدولي، باستنفار كل الغيورين على الشرعية الحقوقية الدولية. الأمر الذي يعني مباشرة إقامة دعاوى قضائية على المسئولين الأمريكيين الذين أوصلوا المنطقة لحالة الدمار الحالي ووزير الدفاع الإسرائيلي ورئيس الوزراء، وعلى الشركات التي تمد إسرائيل بما يسمح لها بقلع الشجر وهدم البيوت وبناء جدار الفصل العنصري والمستوطنات، باعتبار كل ما ذكر جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وبناء مجموعة ضغط فاعلة للتحرك في إطار مجلس حقوق الإنسان لتدعيم وتفعيل صلاحياته.
* سادسا، الضغط على البرلمانات العربية لاسـتصدار قوانين تجيز للمحاكم العربية والإسلامية، بل الجنوبية بشكل عام، ممارسة الاختصاص الجنائي الدولي الذي يشمل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن المكان الذي ارتكبت فيه. كذلك، التحرك لإقرار تعويضات عن الخسائر الناجمة عن جرائم العدوان، وتفعيل المقاطعة العربية للبربرية الإسرائيلية. إضافة لرفض التركيز في الإعلام والتحركات على سلاح المقاومة، في وقت تغيّب فيه قضايا جوهرية مثل الاحتلال والتوطين والاستيطان والسيادة.
* سابعا، الدعوة لاجتماع طارئ من خيرة الكفاءات والطاقات المناضلة من أجل تكوين غرفة طوارئ دائمة تعنى بتحديد استراتيجيات عمل ملموسة لاستنهاض الأمة ورفض الركوع وتحديد معالم بناء نهضة تشكل الرد الأفضل على بربرية "الحرب على الإرهاب".
_________
* مفكر وحقوقي عربي، المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان - باريس، والمقالة في الأصل محاضرة مقدمة لمؤتمر الاتحاد العالمي للمحامين، جمعية المحامين في تركيا، 26 - 28 آب/ أغسطس 2006 في سيسمه - إزمير - تركيا