نحو فلسفة جديدة للتعليم في العالم العربي
نحو فلسفة جديدة للتعليم في العالم العربي
د. محمد السيد سعيد
تولى منظمات حقوق الإنسان فى العالم العربي الحق في التعليم قدرأ من الاهتمام. ولكن هذا الاهتمام ينصرف إلى معنى ضيق للغاية يشمل صد الهجوم على مبدأ مجانية التعليم بكل مستوياته أو على الأقل في المرحلة الإلزامية, والعمل على إشباع الحق في التعليم من الأصل بهدف ضمان وصول هذا الحق إلى مستحقيه. ولكن هذه المنظمات لم تهتم على الانطلاق تقريبا بفلسفة التعليم بما يتجاوز نقد طبيعته الطبقية. كما أضيفت في السنوات القليلة الأخيرة شيء من النقد للمقررات التعليمية التي يشجع بعضها على عدم التسامح. وتطالب منظمات حقوق الإنسان بنشر تعليم هذه الحقوق والوثائق الدولية ذات الصلة في المستويات التعليمية المختلفة.
لقد عبرت لرفاق النضال الحقوقي عن قلقي من التركيز على تعليم حقوق الإنسان في النظام المدرسي لإدراكي أن الطلاب يكنون قدرا كبيرا من الكراهية لهذا النظام, الذي تحول بذاته إلى نظام قهري. وخشيت أن يؤدى إضافة مقررات جديدة تنهض بمهمة تعليم حقوق الإنسان في النظم المدرسية العربية إلى نتيجة عكسية. وكنت أشير إلى شعورنا نحن بوطأة هذه النتائج السلبية عندما أو حيثما كانت هناك مقررات تعنى بما كان يسمى في مصر في عقدي الخمسينات والستينات ب"التربية الوطنية", أو "الاشتراكية" أو "الثورة" وغيرها من المقررات المشابهة التي كانت تقوم على غرس معتقدات سياسية بعينها.
وأرغب في انتهاز فرصة هذه الافتتاحية للتوسع في شرح أسباب تحفظي على حشر مقررات تقوم على "تعليم حقوق الإنسان" في النظم المدرسية العربية. ذلك أن هذه النظم ليست مؤهلة لغرس قيم أخلاقية وإنسانية سامية, وهو ما يعود إلى أسباب بعضها يخص العالم العربي وبعضها الآخر يخص المرجعية الأساسية للنظم المدرسية وهى المرجعية الغربية الحديثة. إن القضية الأساسية التي تحتاج إلى مناقشة مستفيضة هي الفلسفة التعليمية ذاتها, ومن ثم إثارة المقصود بالتعليم من حيث الأصل.
أولا: الفلسفة التعليمية:
يقع نشر التعليم ضمن أهم مسئوليات الدولة المعاصرة. كما أنه يحظى باهتمام كبير من جانب عدد هائل من المنظمات الدولية. ومع ذلك فهناك نقد متزايد للأداء العربي في هذا المجال الحيوي.
ويتم نقد الأداء في العالم العربي على مرجعية التعليم في البلاد المتقدمة, وهو ما يمثل خطأ كبيرا. فالواقع أن التعليم الغربي المتقدم ذاته غارق في مشكلات أساسية لم يتم حلها بل ولا ينتبه لها غير أقلية من فلاسفة التعليم لأن الغالبية أسست نظرتها للتعليم على قاعدة القبول بالأمر الواقع وبصفة أخص فيما يتعلق بفلسفة التعليم ودوره. وبذلك صار النموذج الملهم للتعليم في العالم العربي هو ذلك الذي يساعد على الوصول إلى التقدم بمؤشراته ومعناه في العالم الغربي والدول المتقدمة عموما. ولا شك أن هذا المستوى من المعالجة ضروري بل وملح إذا كان المقصود منه هو الوصول إلى المؤشرات الكمية المعروفة والتي تذخر بها أدبيات المنظمات الدولية مثل معدلات الالتحاق بالمدارس ونسب المدرسين إلى الطلاب ومتوسط الوقت الذي يقضيه الطلاب في المدارس ومدى تقدم المقررات التعليمية ومدى الاهتمام بالأنشطة غير التقليدية مثل الرياضة والفنون والآداب والرحلات والمناقشات الحرة. كما تشكل تلك المؤشرات قضايا نوعية مثل مدى الاهتمام بالقدرة على التفكير والتعبير بالمقارنة بالحفظ والتلقين, ومدى توفر الأبنية والتسهيلات التعليمية ومن ثم الموازنات التي يحتاجها هذا القطاع للوصول إلى المعدلات الكمية المقبولة عالميا. وتتفق الشكاوى من الأداء في النظام التعليمي في العالم العربي من وجهة النظر هذه على طائفة من القضايا النوعية: فالتعليم العربي الرسمي على الأقل يقوم على التلقين وهو ما يؤدى إلى تشكيل عقل أصم يعتبر عقله مخزنا للمعلومات وليس طاقة رائعة للتفكير, واستخدام أساليب تسلطية في المدرسة تقوم على النهى والزجر وأحيانا الضرب. وفى نفس الوقت نجد فلسفة شعبوية في التعليم وتقدير أداء الطلاب يهتم برشوة الشعب بتحديد معدلات للنجاح في الشهادات العامة أعلى بكثير من مستويات الأداء الحقيقة للطلاب. وفى البلاد العربية الفقيرة يعانى النظام المدرسي من مشكلات شتى تشمل بؤس الأبنية وقصر الوقت المتاح وتدنى مستويات المدرسين والحشو المبالغ فيه في المقررات التعليمية, وضالة الصلة بين التعليم وحاجات ومهارات العمل المتاح. وقد انقسم النظام المدرسي إلى أطر طبقية حيث يتمتع الطلاب المنتمين للطبقات الغنية بمستويات كمية مقبولة بينما يعانى التعليم الحكومي من فقر شديد في كافة المؤشرات المعروفة. ويعيد النظام المدرسي إنتاج البنية الطبقية القائمة وقد يساعد على تدهورها من حيث عدم تكافؤ الفرص والتركيز المتزايد للثروة. أما في البلاد العربية الغنية فثمة طائفة أخرى من المشاكل بما فيها التسيب في تقويم الأداء الطلابي في الشهادات العامة, وعدم المساواة بين الطبقات والمناطق والاهتمام بالكم على حساب النوع, واستمرار عزل الجنسين في المدارس والجامعات. وقد أضيف لكل ذلك الشكوى الأمريكية والعالمية من المقررات التعليمية الحافلة بصور عدم التسامح والقسوة والعنف فضلا عن تفضيل الشكل على المضمون.
وسوف نتناول بعض هذه المشكلات الخاصة بالمستوى العربي تحديدا في المستقبل. أما الآن فما نريد أن نقوم به هو التأكيد على الحاجة إلى رفض النموذج المرجعي للتعليم والذي يتمثل في التعليم الغربي الحديث أو ما يعتقد أنه كذلك. وعلينا منذ البداية أن نفرق بين التعليم والنظام المدرسي. فالأخير لا يضمن في الحقيقة تعليما بل قد يؤدى إلى "تجهيل" بل أن الكيفية التي تتم بها "العملية التعليمية" قد تشتمل بذاتها على تجهيل من الناحيتين الأخلاقية والعلمية.
لقد ارتبط التعليم ارتباطا قويا للغاية بإنتاج المجتمع القومي الرأسمالي والاستهلاكي الحديث بكل ما يشتمل عليه من تعصب. فالارتباط بين السجل التعليمي وحسن الخلق أو لطف المعشر أو الميل للتعاون أو الرغبة في مساعدة الآخرين أو الحب الحقيقي للمجتمع وتقديره أو الشعور بالمسئوليات الأخلاقية عموما ضعيف. ولم يساعد التعليم في شيء على تحسين البيئة الدولية ووضع حد للحروب المدمرة والظلم الاجتماعي أو حتى ثقافة الكراهية والعنف. وربما يكون الافتقار إلى هذا الرباط الجوهري هو العلة وراء اتساع الفجوة بين التقدم التكنولوجي والعلمي المذهل من ناحية والتقدم الأخلاقي المحدود للغاية الذي أحرزته البشرية حتى الآن. وبينما كان رؤساء القبائل التقليديين يمارسون في الماضي كل من الحرب والتعاون البناء مع غيرهم فان القادة المحدثين للحروب والحركات العرقية والاثنية والدينية والذين حصل أغلبهم على مستوى مرتفع للغاية من التعليم الحديث يميلون أكثر كثيرا نحو العنف والحرب وأقل كثيرا نحو تأسيس روابط إنسانية أعمق وأوسع مع غيرهم وخاصة من يعتبرونهم خصوما أو أعداء لهوياتهم المتضخمة على حساب الرابطة الجامعة بين البشر. ويمتلك هؤلاء مهارات أقل في نشر المحبة عن أسلافهم الذين توقف تعليمهم على استيعاب الحكمة التقليدية الموروثة.
ولم يعد من النادر أن نرى علماء أو مهنيين مبدعين وعلى قدر مرتفع للغاية من التعليم والمعرفة ينشرون الكراهية ويشعرون بالحقد يغلى في صدورهم, ولا يتورعون عن قيادة عمليات الإرهاب الفردي أو إرهاب الدولة ويرسلون جيوشها عبر آلاف الأميال لشن حروب تسبب دمارا كبيرا وتترك الآلاف أو الملايين قتلى وجرحى ومعاقين كما تترك بلادا بكاملها وقد عمها الخراب وحرم أهلها من أبسط الخدمات والحقوق الإنسانية. إن الذين يقومون بالتعذيب والمعاملة المهينة لمواطنيهم أو يأمرون به هم قادة كبار في أجهزة الشرطة المحلية في عشرات من دول العالم حصلوا على قدر لا بأس به من التعليم وتتاح لهم أفضل الفرص للتدريب والثقافة. و الذين لا يتورعون عن الحصول على الرشاوى والقيام بعمليات فساد مضرة للاقتصاد الوطني والعالمي ويحرمون بذلك إخوانهم في الوطن وفى العالم الخارجي من الفرص الدنيا لتلقى التعليم المناسب أو الحصول على ماء الشرب النظيفة أو مجرد التمتع بالحد الأدنى من الخدمات الصحية والوقائية أو مجرد الغذاء الضروري للحياة هم أيضا في العادة ممن تلقوا تعليما عاليا. ويمكننا أن نمضي في رصد الأمراض الخطيرة التي تفتك بالأخلاق العامة وتسبب أشد الأضرار بالبشر وننسبها لأفراد حصلوا على مستويات عالية من التعليم.
وبينما لا يمكننا أن نعزو هذه الأمراض كلها للتعليم بذاته لا يمكن أيضا تجنب الاستنتاج بأن التعليم لم يوفر قاعدة مرضية للتطور الأخلاقي. كما أن هذه الحقائق تنبهنا إلى أن التعليم المعاصر صار منفك الصلة بالتربية الأخلاقية والإنسانية. بل يمكننا أن نذهب إلى ما هو ابعد لنقول أن التعليم ربما يكون أحد العوامل التي تحفز الأشخاص على الشعور بالتفوق. وتصوغ بعض الفلسفات تطلعات مريضة للوصول إلى حالة "سوبرمانية" من جانب أشخاص يشعرون بأنهم عباقرة ويسكنون في سماوات تطل على بقية البشر من أعلى دون أن يكون لديهم الإيمان بالمسئولية الأخلاقية أمام البشرية على أية مستوى, بل تنصرف تطلعاتهم هذه إلى البحث في مختلف الطرق والسياسات التي تضمن لهم دفع الأشياء لمصلحتهم الأنانية بما في ذلك السيطرة على الآخرين وإخضاعهم لمعاملة متدنية حيث تحتقر الحقوق الأساسية وتنتهك ابسط القيم السامية التي عدها الناس عبر التاريخ أثمن ما أنتجته التجربة الاجتماعية والحضارة ذاتها.
ثانيا: مشكلات التعليم الحديث
وكما قلنا فان التعليم قد لا يكون المسئول الأول أو الوحيد عن تلك التشوهات المخيفة للشخصية الإنسانية التي ترتبط بالحروب ومختلف ضروب القسوة والفساد والكراهية فضلا عن تسخير العلم ذاته فيما لا يجلب سوى التعاسة., ولكن التعليم يظل مسئولا عن الفشل في الحيلولة دون بروز هذه التشوهات على النحو الذي نشهده في اللوجة السياسية والاجتماعية العالمية. كما أنه يظل مسئولا بين عوامل وقوى أخرى كامنة في صميم المجتمع عن انفكاك الصلة بين المعرفة والأخلاق الرفيعة فضلا عن الشعور بالمسئولية الاجتماعية.
ويجب أن نبحث بصورة ميدانية لماذا يفشل التعليم في إنتاج الشعور بالمسئولية الأخلاقية وعن جعل المعرفة صنوا للرقى الإنساني بكل أبعاده. فالتعليم ليس شيئا متجانسا في جميع المجتمعات أو حتى في المجتمع الواحد. بل وقد لا يكون للمصطلح نفس المعاني والدلالات المبثوثة فيه عبر الثقافات والمجتمعات والدول. ولذلك يتعين علينا أن نرصد تلك المسئولية بصورة ميدانية وفى السياقات الوطنية والقومية والثقافية والجغرافية وأن نقوم ببحوث تفصيلية عن تلك الارتباطات المشكوك فيها بين التعليم والرقى الأخلاقي والمعرفي.
غير أننا نستطيع أن ننسب قدرا كبيرا من الأمراض العالمية التي أشرنا إلى بعضها إلى مشكلات مشتركة. وربما تكون القائمة التالية أهم تلك المشاكل المشتركة عبر الثقافات والمجتمعات.
1) التركيز على التعليم بالمعنى الضيق على حساب التربية: فأكثر نظم التعليم الراهنة تكتفي بالتركيز على إجبار الطلاب على اسيتعاب قدر كبير من المعلومات ولا تلقى بالا إلى التربية الأخلاقية. ويلاحظ أن هذا التركيز الأحادي وسقوط "أجندة" التربية من لائحة المسئوليات والمهام التي يقوم بها جهاز التعليم يرتبط إلى حد كبير بالأوضاع السائدة في المجتمع ذاته نتيجة التركيز على إطلاق حريات الفرد واعلاء القيم المادية كركيزة لولادته ولادة حرة وذلك على حساب الروابط الاجتماعية المشتركة والمسئوليات الأخلاقية التي يجب أن تحميها وتنميها وتطورها على الدوام. وربما يعود هذا التركيز الأحادي إلى الفشل المتأصل في نظم التعليم البيروقراطية ذاتها. أن بيروقراطية التعليم تجد من الأسهل لها القيام بشروح لمعلومات تبدو موضوعية أو حقائق مطلقة ذات أهمية في السوق والاقتصاد وذلك بالمقارنة بواجب القيام بشروح مستقيضة للواجبات الأخلاقية. ويبدو أن المحيط الاجتماعي بجوانبه المختلفة بدأ يدفع الطلاب أنفسهم للسخرية من القيم الأخلاقية أو المقررات الدراسية أو الشروح التي تتعمد غرس هذه القيم في نفوسهم. وفى حالات كثيرة صارت المدارس والفصول الدراسية ذاتها هي الميدان الذي يتعلم فيه الأطفال واليافعين لضروب العنف والفساد المختلفة. ولا تعنى إشارتنا إلى البيروقراطية التعليمية أننا نوجه الاتهام إلى نظم التعليم العامة التي ترعاها الحكومات وحدها. بل قد تكون مسئولية نظم التعليم الخاصة والتي تتمتع بظروف أفضل كثيرا أشد مسئولية عن بعض الأمراض الأخلاقية المنتشرة. ولنلاحظ أن كبار الساسة وغيرهم من العناصر المسئولة عن شن حروب الدمار هم في حالات كثيرة خريجي أفضل المدارس والجامعات الخاصة. ففي الحالتين وان بطرق مختلفة وتبعا لظروف متباينة نجد ظاهرة انفكاك الصلة بين التعليم والتربية الأخلاقية والتركيز على الأول دون- وعلى حساب- الثاني.
2) تجزئة المعرفة والشخصية الإنسانية: فجانب كبير من التعليم المدرسي بما فيه الجامعي ينصرف في أكثرية دول العالم على شروح لمقررات منعزلة عن بعضها البعض ومناهج عمل وأساليب تدريس نمطية ومجزأة إلى حد كبير. كما تتم عملية التدريس ذاتها بقدر كبير من النمطية. ويؤدى هذا الإرث إلى تكون معرفي متشظي وبعيد عن أن يمنح الطلاب رؤية معرفية شاملة أو إدراكا شاملا للأشياء. ويفهم أكثر التلاميذ دروس اللغة بمعزل عن دروس الرياضيات. وتنفصل المعارف المتاحة عن المجتمع عن تلك التي ينظر إليها باعتبارها معارف علمية أو وضعية صارمة لا مجال للشك فيها. إن الحقيقة البشرية والطبيعية ذاتها تبدو وكأنها مقسمة بين مجالات مختلفة وباردة تجاه بعضها البعض. ونادرا ما يوحي التعليم للطلاب بأننا نتحدث عن نفس المجتمع أو نفس المادة البشرية والطبيعية وأن المقررات التعليمية لا تناقش سوى جوانب مختلفة من نفس الحقائق أو الأشياء, وان المباحث المختلفة حول تلك الأشياء ليست سوى طرق للتركيز على تنمية مهارات أكثر تخصصا دون أن يكون ذلك سببا لفصم العرى بين الجوانب المختلفة من نفس الظواهر. وبذلك يحرم الطلاب من فرصة تكوين شخصية شاملة أو إدراك المعرفة باعتيارها عملية غير قابلة للتجزؤ. وتقود عملية التشظي هذه إلى تشظي مقابل للشخصية والى مضاعفة السدود والموانع فيما بين البشر أنفسهم.
3) التمركز حول الدولة والهوية (تعليم الدولة القومية): والواقع أن تطور التعليم الحديث نفسه يرتبط ارتباطا قويا بالدولة والهوية العرقية والثقافية على حساب الهوية الإنسانية. وتنظر دول كثيرة للتعليم على اعتبار أنه أداة للمشايعة السياسية وتكوين مواطن متحد تمام الاتحاد مع دولته وهويته بما في ذلك لغته هو وثقافته القومية. وكثيرا ما يعنى ذلك غرس الكراهية للقوميات والدول الأخرى منذ الصغر. وتخلط تلك الدولة بين مسؤليتها عن التعليم العام من ناحية و"حقها" المزعوم في صب الإنسان في قالب المواطنة التقليدي الذي يجد نموذجه الأعلى في الجندي المحارب "من أجل بلاده". ولهذا السبب ترتبط نظم التعليم بالأيديولوجيا القومية والهويات العرقية ارتباطا حميما ولا تتمكن من إيجاد الصياغات الضرورية للفت النظر إلى أن انتماء الشخص لهوية ما ليس بالضرورة على حساب الهويات الأخرى. وبذلك يقوم التعليم بصهر الوجدان وتأطير العقول بما يناسب الأيديولوجيا القومية والعرقية والدينية. وبذلك يتكون في الحقيقة جندي لدى الدولة بغض النظر عما إذا كان يعمل بالقوات المسلحة للبلد المعنى أم في أنشطة أخرى. إن مثل هذا التوظيف السياسي والأيديولوجي للتعليم هو المسئول الأول عن الميول نحو العنف وفك عرى الارتباط بين المعرفة والمسئولية الأخلاقية. لقد صار تعليم الدولة القومية محاضن يعد فيها الناس لكي يصيروا وطنيين وليس لكي يكونوا بشرا أفضل. بهذا المعنى فالتعليم الحديث هو المفرخ الأول للشمولية أو على الأقل واحدية الهوية.
4) العزلة الطويلة عن الحياة في نظم أشبه بالثكنات: ويقودنا هذا إلى واحدة من أهم مشكلات التعليم الحديث وهو أنه المؤسسة الموازية للمجتمع الجماهيري والتي تضمن بقاء هذا المجتمع. إذ يتم عزل الطلاب منذ نعومة أظفارهم عن الحياة وذلك لفترة طويلة قبل أن يبدأ دفعهم فجأة إلى الوظائف التي تتعلق بشئون الحياة. ويفتقد الناس في مثل هذا النظام لإدراك طازج للحياة بما فيها من معاناة وتعقيد وما تستلزمه من حكمة لا من حقائق ومعارف مجزأة. وفى غالبية دول العالم الثالث لا يضمن التعليم فرصا للعمل المشبع ويتم التصريح علنا وبدرجة مذهلة من التسليم بالأمر الواقع أن ما يتلقاه الطلاب من معارف لا تضمن لهم حتى الحد الأدنى من المهارات المطلوب للقيام بأعمال ووظائف محددة. ومن أغرب نتائج هذه النظم التعليمية أن يعيش الناس أفضل سنوات عمرهم باسم التعليم في أماكن معزولة وذات أسوار لكي يتخرجوا دون أن يمتلكوا هذه المهارات. ويضطر أصحاب الأعمال في أحوال كثيرة إلى تدريب خريجي النظام التعليمي الحديث على مهارات أساسية لم يتعلموها. وتصل السخرية إلى حد أن كثيرا من الطلاب- الذين كان أسلافهم من الأطفال واليافعين في الماضي يعلمون كل شيء عن محيطهم الاجتماعي والبيئي – لا يكادوا يعرفون شيئا عن جيرانهم أنفسهم أو عن المزروعات والأنشطة السائدة في مناطقهم. وبذلك تتعزز الطبيعة التجريدية للمحيط البيئي والاجتماعي وتصبح مجرد أشياء ربما وردت في الكتب ولكنها تبدو باردة وغريبة أو حتى كريهة. وتغرس هذه المقومات إمكانية العنف تجاه عناصر البيئة الاجتماعية والبيئية المحيطة. أما الشعوب الأخرى في نفس المحيط أو على جواره فهي تصبح طلاسما يصعب فهمها وقد توضع فيها دلالات سلبية. وعندما لا يمتلك النظام التعليمي الحكومي الموارد الكافية تتم التضحية حتى بالأنشطة البدينة والإبداعية التى يمارسها الناس كجزء لا يتجزأ من وجودهم ذاته ويحرم الأطفال واليا فيعن من فرص النمو الطبيعي ووسط الطبيعة والمجتمع ويتحولون إلى مخازن لمعلومات متفرقة لا تقود إلى أي نوع من الحكمة أو المعارف الحقيقية فضلا عما تتضمنه من حرمان من مقومات أساسية للشخصية الإنسانية مثل النشاطات البدينة والإبداعية. ويعزز هذا التكوين من الطابع التجريدي والمفقر للشخصية الإنسانية وقد يدفع تلقائيا إلى العنف كما يحدث في المدارس ذاتها.
ثالثا: ملامح لمستقبل منشود
إن التفكير الأخلاقي المسئول حول مستقبل التعليم لابد أن يواجه تلك المشكلات المستعصية للتعليم سواء على المستوى الوطني أو العالمي. وتبدو صعوبة هذا التفكير في أن التعليم هو عملية إعادة إنتاج للمجتمع ذاته. فلا يمكن لمجتمع أن يعلم أولاده سوى ما يعلمه أو يؤمن به. ويعنى ذلك تلقائيا أنه لن يعلم أولاده ما يجهله أو ما ليس من اللائحة الأساسية لمنظومته القيمية. فإذا كان المجتمع كله يحتفل بالخرافة فلن يكون من الممكن لأطنان من المعلومات العلمية أن تنتج طلابا مغايرين. وإذا كان المجتمع ممسوسا بالتطرف الديني فسوف تجد هذه المشاعر طريقها للنفاد إلى قلب المؤسسة التعليمية بمئات من الطرق, هكذا. وقد يكون من السهل علينا أن نصرح بأن التعليم هو أيضا أداة للتغير الاجتماعي ولكن وضع هذه الأطروحة موضع التطبيق في الممارسة العملية قد يكون أصعب الأشياء. فإذا كانت بنية القوة في المجتمع تتركز حول فئات معينة مثل رجال الدولة والماليين الكبار وأصحاب المشروعات أو شركات الأعمال التي تقوم بالتوظيف والجيوش الكبيرة وقوات البوليس فضلا عن المؤسسات الدينية والحركات الاجتماعية والسياسية التي تتمتع بنفوذ كبير على العقول والضمائر دون أن تكون مؤهلة لمناقشة أي من الأمور التي تدافع عنها بصورة عقلانية أو نقدية فان هذه الهيئات ذاتها ستتمتع بسلطة القرار التعليمي مثلما تتمتع بسلطة الحياة والموت على المواطنين سواء كانوا داخل أو خارج النظام التعليمي. وسوف يتابع هؤلاء التأثير بعقلياتهم ومصالحهم على نظم التعليم الوطنية مثلها في ذلك مثل كل النظم الأخرى.
ويضاعف من تلك الحقيقة أن نظم التعليم الحديث أثبتت فعاليتها في إنتاج الجيوش الضرورية للحروب وللإنتاج العلمي والتكنولوجي والاقتصادي الذي أتاح الثروات المذهلة وغير المسبوقة المرتبطة بمعنى الحداثة نفسه لدى المؤسسات المهيمنة. ومع ذلك كله فان هناك قدر كاف من الغضب على نمط المجتمعات الحديثة سواء كانت أصيلة في إنتاج الحداثة الزائفة التي نعايشها الآن أو كانت مجرد تقليد هزيل وغير متقن للأولى كما هو شائع في العالم الثالث وبالذات البلاد الأقل نموا. كما أن هناك قدر كاف من المعارف التي تؤكد استحالة مواصلة العيش بالطريقة التي تأسست في القرن الثامن عشر وازدهرت بصورة غير مسبوقة في القرن العشرين. ويهدد انتشار الحروب وثقافة الكراهية والنطرف الديني والميول الاثنية والقومية المتطرفة وغيرها من مظاهر السياسة المعاصرة بتدهور شامل لا للأخلاق الإنسانية فحسب بل وللحياة ذاتها. ولهذا السبب فان تطلعنا إلى تعليم مختلف قد يتمتع بقدر معقول من التأييد لدى أوساط اجتماعية وثقافية عديدة. كما لا يمكن التقليل من نفوذ الأفكار الإيجابية والبناءة حتى لو لم تكن تتمتع بتأييد أو سلطة مادية في السياقات الوطنية والعالمية الراهنة. إن الغالبية الساحقة من المفكرين وذوى الضمائر تتطلع إلى تأسيس حضارة إنسانية جديدة وهو ما يجعل التفكير بشجاعة في مستقبل التعليم مشروعا ممكنا وقد يحظى باهتمام كبير من دوائر متعددة.
ولكن السؤال يتعلق بطبيعة التعليم المستقبلي الذي نصبو إليه. وهنا قد لا يكون لدينا تصور كامل. وينبغى مناقشة الأمر بصورة جماعية وعلى أصعدة اجتماعية شتى حتى نصل إلى أفكار وملامح تطمئننا على أن ما قد نؤسسه ليس ردة إلى الماضي وليست مخاطرة بما نملك من أجل أحلام ضبابية.
وجل ما نستطيعه هنا هو التفكير بصوت عال في بعض هذه الملامح المطلوبة. وعلينا أن نلفت النظر بالذات إلى تلك الملامح لتعليم مستقبلي بناء تعالج المشكلات الخطيرة التي أشرنا إلى بعضها في الفقرات السابقة. ومن ثم فإننا ندعو للتفكير في الاطروحات التالية.
1) استرداد الوظيفة الأخلاقية والتربوية للتعليم على كافة المستويات. وإذا كنا نفكر في التعليم كأداة لبناء حضارة إنسانية جديدة في سياقات تعدية ثقافيا واجتماعيا ودينيا فان علينا التركيز على أخلاقيات الحياة المدنية المأمولة وهو ما يعنى التركيز على التربية المدنية. ويثير هذا التوجه قضايا لا حصر لها تكمن في صميم فكرتنا عن مجتمعاتنا وهوياتنا المتعددة. وقد أثيرت بالفعل مناظرات ذات صلة بهذا التوجه أثناء المفاوضات حول كثرة من التشريعات الدولية وخاصة تلك المتصلة بحقوق الطفل. وعلى سبيل المثال لابد من طرح أسئلة حول تربية الطفل على الأسس والموروثات ذات الصلة بهوية آباءه. ولكن ذلك قد ينطوي على ما يعد تربية غير مناسبة على بعض الأفكار والنوعات الكارهة للأخر أو التي تزرع عقدة تفوق في نفوس النشء. كما أثريت مناظرات أخرى تتعلق بمفهوم معين للحق في التعليم تحول دون قيام الأطفال بأي نوع من الأعمال. وبالمقابل قد لا يكون ذلك أمرا ضارا بنهاية المطاف برفاهية الأسر الفقيرة في المجتمعات المحرومة فحسب, بل قد تكون تلك الفكرة ضارة بتربية الأطفال من حيث أنها تعزلهم عن بعض أهم خصائص العملية التربوية السليمة بالمعنى الواسع للكلمة لأن التعليم والتربية المعزولة عن العمل قد لا تنتج غير تكوين تجريدي وقليل الحساسية للحياة الاجتماعية. غير أن أهم تلك المناظرات هي تلك التي تتعلق بتوجهات المؤسسات العائلية والدينية والمؤسسات والحركات الأخرى مسيسة الصلة بالتربية الأخلاقية مثل المؤسسات الدينية والتي قد تكون منغمسة كلية في توجهات تغذى الكراهية أو الاحتقار والرفض للأخر الديني أو الثقافي. وتثير مثل تلك الإشكاليات قضايا لا حصر لها بخصوص الاختيارات الممكنة للسياسة التربوية والثقافية, حيث لا يمكن حرمان أي شخص من التزود بعناصر أساسية من ثقافته ولكن هذا التزود لا يجب أن يقوده إلى العنف والكراهية والعقل المغلق ونزعات الانتقام أو التعلق بتلك النزعات كحقائق مطلقة. كما أن تعدد وضمان الحريات الدينية والسياسية يطرح إشكالية الكيفية التي يمكن بها مباشرة التربية الأخلاقية المدنية في سياقات قد تغذى نزعات مضادة. وأخيرا فان هناك إشكالية الكيفية التي يمكن بها استرداد الوظيفة التربوية لتعليم تباشره هيئات بيروقراطية قد لا تكون مخلصة للمسئولية والرسالة الأخلاقية المدنية التي نتحدث عنها.
2) استرداد الصلة العضوية بين التعليم والحياة الاجتماعية. وقد أسلفنا أن العزلة التي تعيشها غالبية أنظمة التعليم المعاصرة قد تنطوي على إطلاق للنزعات غير الاجتماعية أو العنيفة أو تلك التي تتضمن تشيؤا واضحا في رؤى العالم والصور الشائعة عن الحياة. ومع ذلك فان استرجاع تلك الصلة لا يجب أن يعنى حصر رؤية العالم في هيئات محددة أو التعلق بما قد ثبثه من معتقدات ونزعات قد لا تكون مواتية للمشروع الحضاري الجديد الذي نتحدث عنه. ومن هنا يجب أن نعرف تعريفا دقيقا ما نعنيه باستعادة الصلة بين التعليم والحياة الاجتماعية والكيفية التي تضمن أن يكون مرود هذه الاستعادة إيجابيا والمؤسسات القادرة والراغبة في الاضطلاع بهذه المهمة. وعلى سبيل المثال قد نفكر بمنظور ثوري في تحويل المجتمع كله إلى ورشة تعليمية ونشر مهمة التعليم والتربية على عدد كبير من المؤسسات بما فيها مؤسسة المدرسة. ويعنى ذلك أن يتعلم الطلاب في المصانع والمكاتب والمؤسسات الأخرى للمجتمع جوانب معينة من الحياة ليفهم الطلاب كيف انعكست ووظفت طائفة واسعة للغاية من المعارف عن الطبيعة والمجتمع على السواء في الممارسة. وفى نفس الوقت يجب تخصيص أوقات معينة لتعلم الأصول العلمية التجريدية وهى التي نسميها العلوم الأساسية سواء داخل مقرات مخصصة لهذا الغرض في هذه المؤسسات أو في مؤسسات مخصصة للتعليم الأساسي وهى ما نسميه حاليا بالمدرسة أو الفصول التعليمية. ويمكن لمثل هذا التصور أن يحقق ما نريده من تعليم مستمر ومتواصل مدى الحياة. كما يمكن أن يكون التعليم ذاته أمرا أكثر مرونة وحرية مما هو متاح حاليا حيث يمكن أن يداوم المرء على الدراسة وحدها طوال فترة التعليم أو يتوقف قليلا لكي يقوم بأعمال ووظائف يتلقى فيها تعليما تجريبيا وحقليا ثم يعود لمقاعد الدراسة المتخصصة. وقد يمكن أيضا أن يغرف المرء طوال حياته من نمط التعليم الذي توفره مؤسسات العمل والإنتاج دون جاجة للذهاب إلى مدرسة أو جامعة أصلا لأنه يحصل على المعارف التي يحتاج لها في الميدان وان بصورة أرقى كثيرا جدا من المفهوم البسيط للتدريب في الموقع.
3) التأكيد على التكامل المعرفي. وربما يكون هذا المبدأ هو أكثر الطرق فعالية في الدفع نحو التطور الأخلاقي وضمان غرس المسئولية الاجتماعية والإنسانية والمدنية للتعليم. فلابد من تجاوز ونفى الفكرة التي تقول بأن هدف العلم والمعرفة هي السيطرة على الطبيعة وهو ما يعنى في الواقع تخريبها وإشاعة الفوضى في نظامها الحيوي. كما لابد من إنهاء العزلة بين المعرفة الاجتماعية وتلك المتعلقة بالطبيعة ، لأن الإنسان هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة أو الخلية العاقلة في منظومتها الحيوية. وكذلك لابد من نفى وتجاوز الفكرة التي تقول بأن المعارف الخاصة بالطبيعة بما في ذلك قوانين الكيمياء ومبادئ الرياضيات وغيرها من المعارف التامة والتطبيقية تمكن استخدامها على أي نحو دون تكلفة. فتفضيل التوظيف التدميري للطاقة النووية بمجرد تطبيق علوم الطبيعة ليست قرارا معرفيا بل قرار سلطوي معاد للمعرفة والعقل ويؤدى إلى ضريبة فادحة لا بالنسبة لأعداء بعينهم بل بالنسبة للجميع. وتوجيه تكنولوجيا الدمار الشامل أو الجزئي إلى أعداء مفترضين ليس قرارا يتفق مع المعرفة السليمة لأن القاتل يخسر على نحو لا يقل أثرا عن المقتول بغض النظر عن ذرائع القتل, وهكذا. إن الفكرة التي يجب أن نتطلع إليها هي أن إعادة التكامل بين أوجه وميادين المعرفة هو أمر يعيد الحساسية الإنسانية التي نضحى بها من خلال تشظيتها وتجزئتها على النحو المعروف في النظم المدرسة الحالية. إننا لا نناقش هنا قضية أكاديمية ولا نطلب مجرد العمل وفق ما صار معروفا باسم تكامل نظم المعرفة. فالأهم هو أن يدرك الطلاب أن ما يعرفونه من اكتشافات وتكنولوجيات هي جميعا جوانب لنفس الشيء. فالمعارف الفلكية عن الأجرام السماوية ليست منفصلة عن الإبداع الشعري حولها وليست منفصلة عن قوانين الرياضيات التي نسخرها لفهم هذه الأجرام ولا عن المركبات الكيماوية التي نتعرف على خصائصها ولا عن التراث الطويل من الاسترشاد بها في الحركة والملاحة وأن المعلومات السوسيولوجية ليست منبته الصلة بالنمط المحدد من التطور التكنولوجي أو خصائص السلطة في مختلف المراحل والحقب التاريخية أو أنماط التنظيم والإدارة التي ترسخها تلك السلطات. ولا توجد أدنى إمكانية للفصل بين الاقتصاد وسبل المعيشة والتنظيم الاجتماعي. ويجب أن نطرح تكامل العملية المعرفية ومن ثم التعليمية على نحو يثير الدهشة أو حتى السخرية من ضيق الأفق الذي فرض أنماطا محددة من التوظيف والمعارف التي أخذنا بها بينما كان يمكن أن تكون اختياراتنا أكثر رشدا وإنسانية. والمهم في ذلك كله أن نفهم أن العلم والتكنولوجيا ليست أشياء منفصلة عن إنسانيتنا ولا يجب أبدا أن نتوافق مع الادعاء بأنها هي التي تحدد حياتنا بينما من يحددها هي سلطات اجتماعية وبشرية ضيقة وليست سلطة التكنولوجيا بذاتها أو سلطة الجميع الناتجة عن الاختيار العاقل والحر. ويمكن في هذا السياق التفكير في القوالب التعليمية التي تحقق هذا الغرض. فينبغي مثلا أن نبدأ برواية واحدة ومستمرة ومتغيرة هي رواية الحياة الإنسانية كما وقعت في التاريخ لكي نشرح كيف تتم المعارف وما هي الاكتشافات التي حققناها وتلك التي يمكن تحقيقها عبر مستقبل مختلف, وبذلك تعود الرياضيات للاندماج مع الكيمياء والطبيعة وتعود هذه الهموم المعرفية للاندماج مع المعرفة بالمجتمع والسياسة, وهكذا.
4) تنوع وتضافر وتوزان المؤسسات القائمة على التعليم: ويعنى ذلك أن نفكر في تعليم ما بعد المدرسة أو ما بعد التعليم الجماهيري والنمطي والمعزول في أبنية مدرسية ونظم بيروقراطية صارمة. وإذا قبلنا بمبدأ نشر المهمة التعليمية على عدد كبير من المؤسسات التي تشغى بها الحياة يجب أن ننهى نفوذ وسلطة الشهادات على الأقل بالمعنى الذي ساد طويلا في أيديولوجيا التعليم والأيديولوجيات البيروقراطية والطبقية السائدة. فالشهادات ليست مدخلا للانتماءات الطبقية المتراتبة رأسيا. وثنائية المتعلم –الجاهل أو صاحب الشهادة- الأمي ليست فقط زائفة ولا علاقة لها بالحقيقة بل هي أيضا ضارة بالجميع. فالعلم ليس القدرة على استرجاع معلومات ما صحيحة أو زائفة وانما هو امتلاك ناصية الحكمة والتطلع للأفكار المؤسسة على دليل وخبرة حقيقية من أجل التصرف بصورة سليمة مع أسئلة الحياة بما فيها الإنتاج الاقتصادي. ومن هذا المنظر فالمستقبل يجب أن يكون تعليما يعنى بالتنوع الأفقي للمهارات والمواهب وليس الترتيب الرأسي للمكانات ومن ثم الثروات والسلطات. والتعليم الحقيقي هو القدرة على الذهاب إلى ما هو ابعد من الخبرة الحسية بالتكراريات الظاهرية للظواهر والتعرف على الإمكانيات الكامنة في احتمالات متعددة لفكها وتركيبها وهو ما يعنى أيضا التعرف على القوانين التجريدية لحركة الأشياء. وإذا كان التعليم هو الذهاب في المعرفة إلى ما هو أبعد من الخبرة فان التعليم الذي لا يستند على الخبرة ليس تعليما وذلك الذي لا يمكن الناس من التعرف على الطرق المتعددة لفك وتركيب وتوظيف الأشياء والظواهر من أجل تعزيز وتحسين الحياة ليس تعليما. ولهذا السبب يجب أن تتوزع عملية التعليم على كافة مؤسسات وطاقات المجتمع ويجب ألا يسمح باحتكار أية جهة أو مؤسسة للمهام التعليمية. ويدفع هذا المنظور للتعليم إلى إعادة صياغة المؤسسات ذاتها بما يتفق مع المعرفة بالاحتمالات المتعددة لتنظيمها وتخصيصها في الإنتاج والإدارة.
إن هذه المعنى ليست ترياقا أو علاجا كافيا للأمراض والعلل التي تحيطنا من كل جانب سواء في التعليم أو المجتمع الأوسع. فالتجاوز الحقيقي لهذه العلل لا يتم إلا بمناقشة الموضوع على أوسع نطاق وبما يسمح بتدفق حر للإبداع والعبقرية الجماعية. وربما تكون مجرد بداية لمناقشة أعمق, وهذا هو جل ما نطمع فيه.