ميشال شماس : استقلال القضاء في سورية الجديدة

أنتبه, فتح في نافذة جديدة. صيغة PDFطباعةأرسل لصديقك

ميشال شماس : استقلال القضاء في سورية الجديدة

هل هناك علاقة بين استقلال القضاء وتحقيق الديمقراطية؟ وهل يتوقف تحقيق الديمقراطية في مجتمعنا السوري على وجود عدالة قوية ونزيهة؟ وكيف يمكن الحديث عن حقوق الإنسان في سورية إذا كانت تفتقد إلى وجود قضاء مستقل ونزيه

في الحقيقة لا يمكن الحديث عن مجتمع عادل خال من الديمقراطية؛ مثلما لا يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطي هادئ وهادف في غياب عدالة فاعلة وفعّالة. إن المطالبة بتحقيق مجتمع عادل في سورية ليس ترفاً، بل أصبحت تلك المطالبة اليوم ضرورة ملحة لمد الجسور بين ما هو مثالي وبين الواقع الذي نعيشه، لاسيما في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية المتسارعة والمذهلة التي حولت العالم إلى قرية صغيرة منفتحة على بعضها البعض

رغم أن رئيس الجمهورية في سورية يتولى أيضاً منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى ويدَّعي أنه لا يتدخل في القضاء ولا في الأحكام التي تصدر عن المحاكم، لكن قانون السلطة القضائية أعطى وزير العدل السوري نفوذاً واسعاً على القضاء، لا سيما في المادة 65 منه. إن هذه التركيبة القانونية جعلت السلطة التنفيذية حاضرة ومؤثرة في جميع الحلقات الإجرائية التي تُنظم شؤون القضاة من التعيين والترقية إلى التأديب والإقالة، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق مجلس القضاء الأعلى المُعين من قِبل السلطة التنفيذية والذي تتمثل فيه بأكثرية أعضائه، وهذا ما جعل القاضي تحت رحمة وزير العدل وتعليماته. ويبرز تدخل السلطة التنفيذية في عمل القضاء لا سيما في المواضيع السياسية في التزام القاضي غالباً بجميع التهم التي ترد في الضبوط الأمنية، ومع أن كثيراً من القضاة لا يقتنعون بتلك التهم، إلا أنهم يخشَون على أنفسهم إذا أصدروا قراراً بالبراءة أو إخلاء السبيل، كما حصل مع القاضي في قضية الكاتب والمعارض ميشيل كيلو فقد جرى نقله عقاباً له لأنه قرر إخلاء سبيله

لم يعد دور القضاء اليوم يقتصر على المعالجات القانونية الصرفة كحل للنزاعات وإيقاع العقاب بمرتكبي الجرائم أو تقرير البراءة، بل أصبح له دوراً مجتمعياً يتمثل بحفظ الاستقرار والسلم الاجتماعي وامتصاص التوترات المجتمعية التي يمكن أن تحدث نتيجة عدم إيجاد حلول جدية للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما مشكلة الفساد والتضييق على حريات الناس. فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر إشكالية الاستثمارات في سورية، فإن القاضي مُطالب من جهة بمراعاة الجانب الاجتماعي، حيث يتحتم عليه الوقوف في جانب الطرف الضعيف ألا وهو العامل، وفي المقابل عليه أن يحرص على ضمان حقوق المستثمرين، على اعتبار أن لا تنمية مستديمة في غياب اقتصاد قوي

في الوقت الذي اعتبر فيه أصحاب الفكر السياسي والقانوني المعاصر في العالم أن استقلال القضاء بات يشكل ركناً أساسياً من أركان الديمقراطية ودعامة أساسية من دعائم دولة الحق والقانون والمؤسسات تحوَّل القضاء في الدول المتطورة إلى مؤسسة سياسية بالمعنى الواسع حيث يقوم بوظيفة حفظ الاستقرار والسلم الاجتماعي في إطار مجموعة من المبادئ الديمقراطية الحديثة التي تحتل فيها دولة الحق والقانون العمود الفقري. بينما نجد العكس تماماً يجري في سورية، حيث تحوَّل القضاء إلى مجرد هياكل دون طعم ولا لون، بسبب التدخل السافر في شؤونه والتعدي على اختصاصاته

يقاس تطور الدول في هذا العصر بمدى سيادة القانون واستقلال قضائها، على اعتبار أن الدولة في المجتمعات الحديثة تخضع للقانون، وهذا ما أكده رئيس مجلس شورى الدولة الفرنسي السابق رينيه كاسان حين قال "لا يمكن أن تقوم سيادة القانون أو تتحقق إلا حيث يكون الإقرار بحقوق الإنسان واحترامها متوافراً على أكمل وجه، وإنه لأمر جوهري أن يحمي هذه الحقوق نظام قانوني، حتى لا يكون المرء مضطراً في النهاية إلى الثورة ضد الطغيان والظلم

إن السلطة القضائية المنوط بها وحدها تحقيق أمر العدالة لا يمكنها أن تحقق هذا الهدف إلا إذا ما عقد النظام الانتقالي الجديد في سورية مصالحة حقيقية بينه وبين مواطنيه، وجعل من المواطن أساس كل التعاقدات الاجتماعية والسياسية، ومفهوم العدالة لا يخرج عن هذا الإطار بل يكرسه. وكما يقول الفليسوف الأماني إيمانويل كانط: فإن العدالة تعتبر الإنسان الأساس المحوري لأي تنمية مستدامة باعتباره كائناً مستقلاً قادراً على أن يحدد بنفسه القانون الذي يجب أن يخضع له وفكرة "سلطان الإرادة" مستبطنة من عمق مفهوم العدالة، غير أنه لا يمكن للإنسان أن يطمئن إلى جهاز عدالة إلا إذا كان هذا الجهاز يقرُّ له فعلياً حق المساواة بين الفقير والغني صاحب السلطة ومفتقدها، العالم بالقانون والجاهل به. وبعبارة أوضح وأدق أن تحفظ هذا العدالة كرامة الإنسان باعتبارها تشكل الدافع الأساسي لتقدم وازدهار العدالة

إن حرية الإنسان وكرامته ومحبته وسلامه وعدله وتسامحه شكلت محور المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية ومن قبلها الرسائل السماوية، بصفتها أعظم هبة من الله منحها لجميع بني البشر بصرفالنظر عن دينهم أو جنسهم أو عرقهم، هبة منحها الله للإنسان ليس باعتباره مسيحياً أو مسلماً أو يهودياً أو صابئاً أو هندوسياً أو بوذياً أو وثنياً، بل باعتباره إنساناً