هكذا قتلت "حليمة".. فكم "حليمة" أخرى ستقتل قبل أن نستيقظ؟!

أنتبه, فتح في نافذة جديدة. صيغة PDFطباعةأرسل لصديقك

د. طلال مصطفى

وجه د. طلال عبد المعطي مصطفى، المدرس في كلية علم الاجتماع بجامعة دمشق، رسالة إلى وزير الصحة السوري، عبر مرصد نساء سورية، إثر وفاة شقيقته (38 سنة، أم لثلاثة أطفال)، التي قضت نتيجة أخطاء طبية وغش وخداع من قبل طبيب لم يهتم إلا بانتظار "المعجزات الإلهية".

تقول الرسالة:
السيد وزير الصحة المحترم
تحية طيبة وبعد،

أختي حليمة (38 سنة) أم لثلاثة أطفال، أكبرهم عمره عشر سنوات وأصغرهم عمره سنة واحدة فقط.
أختي حليمة قتلت في المشفى الوطني في مصياف على يد رجل مسماه الوظيفي في المشفى: طبيب!
نعم قتلت بغدر، لم تعطى فرصة للدفاع عن نفسها، لا بل ذهبت إلى مصيرها "الموت" بنفسها، وبكامل إرادتها!
حصل هذا عندما أبلغها طبيبها أنها حامل بجنين، وهناك ضرورة لاستئصاله  لأسباب صحية تتعلق بالجنين.
أختي كانت إنسانة بكل ما تعنيه الكلمة، حاولت الاحتفاظ بالجنين لأربعة أشهر آملا منها أن يتجاوز الخطر. لكن الطبيب أصر على أن الخطر يتفاقم، ولا بد من الإجهاض.
هكذا اختارت صباح يوم الاثنين (20- 7-2009)، وذهبت بكامل إرادتها إلى المشفى الطبي في مصياف. لم تودع أحداً ظناً منها أنها ستعود بعد ساعات قليلة.. أطعمت أطفالها صباحاً، وأخبرتهم أنها ذاهبة إلى عملها على عادتها في بقية أيام الأسبوع، وأنها ستعود إليهم بعد نهاية الدوام.. بينما الأطفال ما زالوا ينتظرون عودتها من دوام طويل جدا لا ينتهي!
"
الجراحة بسيطة"، هكذا قال لها الطبيب. بضعة ساعات فقط وتعود إلى بيتها كما لو لم يحدث شيئا! كانت حليمة مقتنعة إلى حد أنها لم تطلب المساعدة من أهلها! لكن ما لم تكن تعرفه أن من كان بانتظارها، تحت مسمى "طبيب" هو شخص لا علاقة له بالطب!


السيد الوزير
بعد وقت قليل من دخولها غرفة العمليات، خرج الطبيب يطلب من زوجها توقيعه على الموافقة على استئصال الرحم، نتيجة العمل الجراحي. سارع الزوج لتوقيع ذلك واضعا نصب عينيه صحة زوجته، أختي، وحياتها.
لكن المسلسل تتابع. بعد قليل خرج "الطبيب" نفسه ليقول أنها بحاجة إلى كمية كبيرة من الدم، فقد حصل نزيف حاد! لم يكن الوقت وقت تفكير وحساب. فبدأت رحلة البحث عن الدم في بنك الدم بحماه. استغرق الأمر يومين لإحضار المتبرعين (كل الشكر لأهالي مصياف الذين اندفعوا بإنسانية مميزة للتبرع بدمائهم)، حتى وصل عدد أكياس الدم إلى 75 كيسا!!

الطاقم الطبي، وليس "الطبيب" فقط، لم يكن لديه جواب عن أسئلتنا المتلهفة سوى "ادعوا لها وتأملوا بمعجزة إلهية"! قلنا لمدير المشفى أننا جاهزون لنقلها إلى مشفى آخر أو لإحضار أطباء على حسابنا. لكنه أكد رأي الطاقم الطبي: "انتظروا معجزة إلهية"!

الإرادة الإلهية تحققت في الساعة الثالثة من عصر يوم الثلاثاء 21/7/2009، حين فارقت الحياة، بعد يوم ونصف تقريبا من النزيف المستمر! كان الله بخيلا بمعجزاته الإلهية، ولم تعد حليمة إلى بيتها وأطفالها. بل ماتت بصمت.. الصمت الذي علا أفواهنا وقلوبنا الحزينة..

السيد الوزير
حليمة، أختي، ماتت لأن "المعجزة الإلهية" لم تأت! فهل صار الطب في سورية "طب المعجزات"؟! هل تحول الله إلى شماعة يعلق عليه بعض الأطباء المنتحلين لهذه الصفة أخطاءهم وعبثهم وإهمالهم وجهلهم؟! هل هو القضاء والقدر بعدما تحولت عملية بسيطة إلى نزيف مستمر ليوم ونصف؟! هل ماتت فعلا أم هي قتلت قتلا ويجب أن يحاسب من قتلها؟ ومن يحاسبه؟ هل ستحاسبه وزارة الصحة؟ نقابة الأطباء؟ الرقابة والتفتيش؟ أم هل علينا أن نفكر بانتظار أن يكبر أطفالها الأيتام الآن ليثأروا لها ممن قتلها منتظرا "معجزة إلهية"؟!
أين وزارة الصحة مما يحدث؟ أين نقابة الأطباء؟ هل منكم من يخبر أطفال حليمة متى ستعود من "عملها الطويل جدا"؟!


السيد الوزير
أختي ليست القتيلة الوحيدة في سورية (ربما الوحيدة بالنسبة لي)! لكن كم من "حليمة" قتلت خلال السنوات الماضية في المشافي السورية؟ كم من "حليمة" ستأتي غدا إلى هذا المشفى، أو غيره، وهي تبتسم لأنها ستعود بعد قليل إلى أسرتها دون أن تدري أنها قد دخلت باب "المعجزات الإلهية التي لن تتحقق"؟!

أختي لا تعوض بشكوى! ولا بعقوبة لطبيب فاشل! هي لن تعود من غيابها الطويل حتى بمعجزة إلهية من نمط معجزات هؤلاء الأطباء الفاشلين..
لكن، هل ستنقذ إجراءات عملية وصادقة وحازمة كل النساء اللواتي سيأتي دورهن يوما لكي يوضعن تحت أيدي مدعي الطب هؤلاء؟!

إن رسالتي لك يا سيادة الوزير لا تتعلق بحليمة التي رحلت، أو قتلت. بل بكل المواطنين والمواطنات الأحياء الذين سيأتون غدا، بكامل إرادتهم، إلى "مشافينا الوطنية"، حتى يخرجوا منها سالمين أصحاء، وليس في...

السيد الوزير
حليمة قتلت.. لكنني أعدك أن قصة حليمة لن تقتل. وسيعرف بها كل من في سورية الحبيبة: طلابي، زملائي، أصدقائي، جيراني، أبنائي، حتى من ألتقي بهم مصادفة سوف يعرفون حليمة.. عسى أن يتمكنوا هم من تجنب مصيرها..
أو.. عسى أن حليمة لن تكون قد قتلت سدى.. فلعلنا سنرى علنا وعلى مستوى الوطن خطوات فعالة وملموسة ورادعة توقف تدهور الطب من تلك المهنة الإنسانية السامية إلى تجارة بالدم، وسلعة قابلة للعرض والطلب، وقانون لا يخضع سوى للربح والخسارة!!

حليمة قتلت.. فهل تقتل مشافينا وتقتل ثقتنا بمن نضع حياتنا بين أيديهم؟ أم ستقتل هذه التجارة، وتمزق الشهادات الجامعية الكاذبة، ويعود الطب أملا لكل إنسان؟!


ولكم جزيل الشكر..

د. طلال مصطفى، جامعة دمشق – قسم علم الاجتماع

خاص: نساء سورية