أين كنا... وأي نهج اقتصادي ينهض ببلادنا؟

أنتبه, فتح في نافذة جديدة. صيغة PDFطباعةأرسل لصديقك

أين كنا... وأي نهج اقتصادي ينهض ببلادنا؟             
بشار المنيّر    
28/ 08/ 2011
مدبرو الاقتصاد في الحكومة المستقيلة طرحوا رؤيتهم (الإنقاذية) للاقتصاد السوري، وروجوا لها عبر ندوات داخلية وعربية ودولية،  واستخدموا من أجل تكريسها التهويل والمبالغة في إبراز المصاعب والأزمات التي تعانيها قطاعات الاقتصاد السوري المختلفة بعد مرحلة (جمود) بدأت في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم،  واستمرت حتى عام ،2003 وتتلخص هذه الرؤية بالمقولات التالية
1 - الاقتصاد السوري كان قبل عام ،2000 أي قبل تحوله إلى اقتصاد السوق، كومة  أخطاء، ولولا اقتصاد السوق.. وآليات السوق، وتحرير التجارة، لما ظهرت مؤشرات (العافية) على قطاعات الاقتصاد المختلفة، ولما وصلت الأرقام (الوردية) إلى ما وصلت إليه!
2 - ليفهم جميع السوريين أن تخفيض نسب الفقر.. والبطالة.. ومعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية مرهون بجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وكل حل آخر لن يجدي نفعاً!
3 - لن تستطيع الدولة تحمل مزيد من نفقات الدعم للفئات الأقل دخلاً إلاّ إذا تدفقت الاستثمارات المذكورة،  فليحتج مَن يحتج،  فآذاننا من طين، ومواردنا المحدودة لن نوجهها إلى الدعم الاجتماعي!
4 - يجب الخلاص من القوانين والتشريعات (البالية) التي تقف عائقاً أمام جذب الاستثمارات الأجنبية،  وكذلك قوانين العمل والتأمينات الاجتماعية، التي ترتّب (حسب ادعائهم) على المستثمرين المحليين والأجانب نفقات (مرعبة)، وتتسبب بإحجامهم عن الاستثمار في البلاد، رغم أن ارتفاع مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي إلى 70%، وزيادة الاستثمارات خلال السنوات الماضية إلى أكثر من 5,3 تريليونات ليرة سورية، تم بوجود هذه القوانين العمالية (المرعبة)!
لن نخوض كثيراً في مضمون هذه الرؤية، بل سنكتفي بالعبر التي أفرزتها نتائج  الخطة الخمسية العاشرة التي أظهرت أن الخطط التي تعتمد على استثمارات لا تتحكم الحكومة بمفاتيح جذبها.. وتوجيهها، هي خطط من ورق وحبر، ولا يجوز التعويل عليها في معالجة المعضلات الاجتماعية، وتحسين أوضاع الفئات الفقيرة، أما المعاناة.. والقلق.. والعوز.. والبحث عن العمل، فهو الحقيقة الوحيدة الماثلة أمام هذه الفئات،  وإن الهدف الذي سعى إلى تكريسه  بعض مسؤولي الاقتصاد السابقين، هو تحويل الاقتصاد السوري إلى اقتصاد رأسمالي.. طفيلي، لا يحقق مطامح السوريين التواقين إلى تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية، تنهض باقتصادنا الوطني، وترفع الظلم والمعاناة عن فئات الشعب الفقيرة والمتوسطة.
لقد نسي هؤلاء أن المسألة الاجتماعية التي وُضعت ملفاتها في دروج موصدة، رغم المعاناة الشديدة التي كابدتها الفئات الشعبية، هي أشبه بـ (كعب أخيل)، فملايين الفقراء، وسوء توزيع الدخل الوطني، وارتفاع نسبة البطالة، هي تهديد للاستقرار الاجتماعي، وتحدٍّ خطير للأمن الوطني.(1)
وسنتطرق في مقالتنا هذه، والمقالات القادمة إلى انعكاسات النهج الاقتصادي الذي كرسته الحكومة السابقة على الأوضاع المعيشية والاجتماعية للفئات الفقيرة والمتوسطة التي تشكل أكثرية الشعب السوري.
اتساع رقع الفقر
خلال الفترة الممتدة بين أعوام  1997و ،2003 قدر عدد السكان ممن يعيشون تحت خط الفقر الأعلى الذي يقدر بـ 2052 ل.س شهرياً للفرد، خمسة ملايين و300 ألف مواطن، أي نحو 31% من عدد السكان،  وارتفع إلى 6ر33% في عام ،2007 ثم إلى 6ر41 % في عام ،2008 وبلغ عدد من يعيشون تحت خط الفقر الأدنى أو المدقع، وهو 1485 ل.س مليونين ونصف مليون نسمة، أي نحو 13% من عدد السكان.
انتشر الفقر بشكل عام في المناطق الريفية أكثر من المناطق الحضرية (62%) في المناطق الريفية، وارتفعت معدلات وعمق وحدة الفقر في الإقليم الشمالي الشرقي (إدلب- حلب- الرقة- دير الزور- الحسكة)، وفي حين بلغ إنفاق الشريحة الأفقر الـتي تشكل 20% من السكان نحو 24,7% فقط من إجمالي الإنفاق في سورية،  بلغ الإنفاق 25,45% للـشريحة الأكثر ثراء التي تشكل 20% من عدد السكان. وبينت الدراسة التي أعدها برنامج الأمم المتحدة بالتعاون مع هيئة تخطيط الدولة والمكتب المركزي للإحصاء عام ،2004  أن نسبة 4,11% من إجمالي عدد السكان لم يتمكنوا من الحصول على حاجاتهم الأساسية الغذائية وغير الغذائية، كما أن نسبة 30% من السكان أي ما يعادل 3,5 ملايين شخص لم يتمكنوا من تأمين احتياجاتهم الغذائية وغير الغذائية. وتشير التقديرات الواردة في هذه الدراسة إلى أن (ما يقارب 19% من السوريين معرضون لفترةٍ عابرةٍ من الفقر على أقل تقدير). (2)
أما الجانب الآخر لسوء توزيع الدخل، فهو انخفاض حصة الرواتب والأجور من الناتج المحلي الإجمالي،  إذ انخفضت مقدرةً بأسعار عام 2000 الثابتة من 32,45% عام 1996 إلى 11,32% عام ،2004 ثم إلى 29% عام ،2008 بينما تصل في الدول الصناعية المتقدمة إلى 65-70%، وفي بعضها تتجاوز 80%.
وحسب التقرير الاقتصادي العربي للعام ،2004  فقد قدّر متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في سورية في العام 2003 بمبلغ 1217 دولاراً أمريكياً،  بينما قدر الوسطي العام لمتوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الدول العربية بمبلغ 2492 دولاراً أمريكياً. أي أن متوسط دخل الفرد في سورية يبلغ 49%  من متوسط هذا الرجل.  أي أقل من نصف متوسط دخل الفرد في الدول العربية، ورغم ارتفاع متوسط دخل الفرد في سورية إلى نحو170 دولاراً في عام في عام ،2009 إلاّ أن ذلك لم يؤدِّ إلى تحسين أوضاع الفئات الفقيرة والمتوسطة، بسبب استئثار الفئات المالكة.. والمستثمرة.. والرأسمالية (الجديدة) بالنسبة الكبرى من عوائد النمو الاقتصادي.
وبدلاً من تنمية المناطق الزراعية، التي تعد مستودع الغذاء في البلاد، وخاصة المنطقة الشرقية التي تتسع فيها بؤر الفقر، أدت سياسات مدبري الاقتصاد السوري السابقين إلى تهميش القطاع الزراعي بعد أن رفعت أسعار المازوت المستخدم لري المحاصيل، وحررت أسعار السماد، وماطلت في وضع خطط تنمية هذه المنطقة.  مما فاقم معاناة سكان المنطقة الشرقية، ووسع من بؤر الفقر فيها. وتبين أن مئات القرى في هذه المنطقة ومناطق أخرى في محافظة حلب يتراوح عدد سكان القرية منها بين 1000و 5000  نسمة،  تتراوح نسبة الفقر فيها بين 54 و100% من عدد السكان! (3)
معاناة السوريين
تبين من خلال المسح  الذي نفذته الهيئة السورية لشؤون الأسرة بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية بجامعة دمشق،  الذي استطلع آراء 1400 أسرة في مختلف المحافظات، حول تقييمها لانعكاسات النهج الاقتصادي الحالي على أوضاعها الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، ارتفاع نسب الإعالة،  فكل مشتغل مسؤول عن إعالة ثلاثة أشخاص آخرين، وهي نسبة مرتفعة جداً. وما يزيد من أعباء هؤلاء انخفاض الأجور، إذ تبيّن أن  48% من الأسر السورية لا يتجاوز دخلها 15  ألف ليرة سورية، ويتجاوز دخل 31% من الأسر 20 ألفاً،  أما نسبة الأسر التي يقل دخلها عن 5000 ليرة،  فبلغت نسبتها  5,4%.  وجاء في المسح أن 1,42% من الأسر لا يشعرون بالرضا عن الأوضاع الاقتصادية بسبب ارتفاع نسب المتعطلين عن العمل، وعدم التوازن بين الدخل والأسعار.وحددت الأسر السورية همومها، إذ تربع همُّ ارتفاع الأسعار على عرش الهموم، يليه همُّ الديون التي ترهق الأسرة، وجاء في المرتبة الثالثة ارتفاع الضرائب والفواتير الشهرية. أما عن كيفية مواجهة الأسر السورية لأوضاعها الاقتصادية المتأزمة، فجاء في المسح
1 - نسبة الأسر التي تلجأ إلى ترشيد الاستهلاك الدائم 9,81%.
2 - نسبة الأسر التي تتبع أسلوب الاستدانة من الآخرين 70%
3- نسبة الأسر التي تلجأ إلى العمل الإضافي لتحسين الدخل 7,55%.
4- نسبة الأسر التي تقوم باستهلاك مدخراتها 1,49%.
5- الأسر التي تتأخر  بسداد الالتزامات المالية،  كأجرة المنزل والأقساط والفواتير والديون 2,56%.
6-نسبة الأسر التي تعتمد على حرمان أفرادها من بعض الحاجات كالتعليم والسكن اللائق مراعاة للظروف الاقتصادية 5,46%.
7 - نسبة الأسر التي تلجأ إلى بيع الممتلكات 8,32%.
المسح المذكور أجري في عام ،2007 أي أن معاناة الأسر السورية ازدادت منذ هذه الفترة حتى يومنا هذا، إذ شهد عام 2008 ارتفاعاً لأسعار المواد والسلع الضرورية لمعيشة هذه الأسر بلغت نسبته نحو 60%،  واتساعاً لبؤر الفقر، وتراجعاً للإنتاج الزراعي، وهو النشاط الرئيسي لغالبية السكان. كما شهد عام ،2009  تأثر البلاد بتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في عقر دار الرأسمالية الأمريكية في خريف عام ،2008 وبكلمة أخرى، فإن معاناة الأسر السورية تضاعفت قياساً بالفترة التي أُجري فيها المسح المذكور.
أما عن الفجوة بين الأغنياء والفقراء وعدالة التوزيع،  فنجدها في فنادق الخمسة نجوم وعلى الشواطئ السورية،  وفي أكواخ النازحين من قرى الجزيرة والفرات،  وفي الأحياء الشعبية،  وفي حالات الاستهلاك التفاخري، ولدى الجمعيات الخيرية،  وفي القرى البعيدة والقريبة، وفي قصور يعفور والقرى العطشى. إننا نجد تلك الفجوة تتعاظم مع كل إشراقة شمس،  نحس بها في الشوارع والأحياء وفي الصالات الفخمة في فنادق الخمسة نجوم وغيرها.(4)
جاء في التقرير الاقتصادي والاجتماعي الذي أقره المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي السوري (الموحد)
(بدأ الأغنياء يطلبون المزيد من الاستثمارات في بناء الفلل الفاخرة والخدمات الممتازة،  وبضمن ذلك في مجال الصحة والتعليم وبقية مناحي الحياة، وكل ذلك بسبب سوء توزيع الدخل، وتعميق فروق الدخل بين الأغنياء والفقراء وإفقار جمهور العاملين.وبذلك نشأ اقتصاد النخبة في طرف، ومناطق البؤس العشوائية في الطرف الآخر).
لقد شَهِد المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي بصوابية التوجه الاقتصادي نحو الرأسمالية الريعية، وضرورة تفعيله أكثر فأكثر، وساعد خبراؤهما في تسريع تحويل الاقتصاد السوري إلى نهج السوق الحر بوساطة دراسات ونصائح تفيد بتسليم مفاتيح الاقتصاد الوطني إلى القطاع الخاص، وابتعاد الحكومة عن التدخل في عمل الأسواق وآلياتها، وتخفيض الدعم الاجتماعي للفئات الفقيرة. وأخيراً نصيحتهما الشهيرة بتخفيض حصة أرباب العمل في النظام التأميني، وتخفيض تعويضات العمال وتعديل قانون العمل، بما يخدم سيطرة المالكين على سوق العمل في البلاد.
المراجع
1 - عبد القادر  النيال -أوراق من دفتر الاقتصاد السوري 1997- 2007.
2- الاقتصادي-  سورية 2025.
3 - مشروع تنمية أفقر مئة قرية - هيئة تخطيط الدولة.
4 - د.منير الحمش - صحيفة (النور) العدد