نوع التدخل الخارجي في سورية وتبعات ذلك...

أنتبه, فتح في نافذة جديدة. صيغة PDFطباعةأرسل لصديقك

نوع التدخل الخارجي في سورية وتبعات ذلك...

ظهرت لافتات تطالب بالحماية أو التدخل الخارجي بحظر الطيران أو بغيره… ولأهمية هذا الأمر وخطورته لا بد من مناقشته بنوع من التفصيل.

والمنطق الذي يستند إليه هذا الطلب هو أنه لا أمل في توقف القتل، والحراك قد بذل غاية الجهد ولم يعد في الحيلة المزيد من الوسائل التي تسقط النظام. وساهم في هذا الشعور آمال في أن يأتي العيد بأنباء سعيدة. غير إن تعلّق الآمال بتاريخ معيّن لا يستند إلى معطيات موضوعية، وطلب التدخل الخارجي يمكن أن يؤوله النظام على أن ضعفاً قد أجهز على همّة الثورة. والواقع أن شهر رمضان لم يكن عادياً أبداً، ولم يكن مجرد استمرار لمسلسل القمع والقتل، فردّ فعل النظام وانتهاكه للحرمات قطع الحجة على من يدعي الحياد وأحرج الصديق وأقنع العالم باستحالة الاصلاح الذاتي.

وربما لا نجحف القول إذا اعتبرنا أن في تمنّي التدخل إشارة إلى خيبة أملٍ من الحراك الخارجي الذي لم يستطع تشكيل هيئة سياسية أو مجلس وطني. وبرغم شعورنا جميعاً بتأخر تشكيل هيئة سياسية، إلا أن تأخرها مفهوم، فمخاض الإخراج مخاض صعب باعتبار تفرق الوجهات واختلاف الإيديولوجيات. وأرجو أن لا أنتهي من كتابة هذا المقال إلا والمجلس رهن التشكيل قد اكتمل بناؤه.

ولا نستطيع الجزم بأن طلب التدخل الخارجي هو رغبة كل أجزاء الحراك الداخلي، فالنسب التي تحبذ التدخل العسكري بحسب مواقع الانترنت تراوحت بين حوالي 30 بالمئة على موقع و 60 على آخر و90 على موقع ثالث. وبغياب العلنية وحرية التحرك لا يمكن –من ناحية علمية بحتة- الركون إلى هذه النتائج ولا يمكن اعتبار الشريحة المشاركة في الاستبيان هي فعلاً ممثلة للحراك بمجمله.

عبارات الحماية أو التدخل الخارجي أو الـS.O.S. عبارات عامة لا تحدّد شكل المساعدة ولا حدودها أو مداها. فلنقلّب الفكر في أنواع متعددة من التدخل وما الذي يستدعيه كل نوع وما الذي يرافقه بالغالب.

ولنقل ابتداء إن الدول المهيمنة على النظام العالمي قد تدخلت فعلاً في الأمر السوري، وقد أُرغمت على ذلك ولم تفعله تطوعاً وأريحية. والذي أرغمها هو الحراك الداخلي والسلوك الثوري المتزن. فالسلمية الهادئة للحراك، ونضوجه الرافض للطائفية، وشعاراته وبياناته التي حدَّدت أهدافاً وأجندات واقعية، وتقبّل الحراك المسؤولية الذاتية وعدم إيقاع اللوم على الآخرين، إلى جانب جهود المعارضة في الخارج، هو الذي اضطر القوى الخارجية إلى الاستجابة، فأتى الدعم على المستوى الديبلوماسي والسياسي ومحاولة الضغط الاقتصادي. وبرغم أنّ التردد في عبارات الدعم وعدم الجزم فيها لا يشفي غليل الداخل الجريح، إلا أن تدرج تصعيدها يتناسب مع الأصول الديبلوماسية، والأهم من ذلك، يتناسب مع التطور في تقييم هذه الدول لمصالحها. فصحيح أن رؤية فظائع التنكيل تهز كل ضمير إنساني، بما فيه جماعات حقوق الإنسان، إلا أن السياسة الخارجية لا تعبأ كثيراً بهذه المشاعر، إلا ما كان من عبارات شجب وإبداء للقلق. السياسة الخارجية لا تزيح أعينها عن الأهداف الاستراتيجية الكبرى. ولا يخامر الشك إداراتِ هذه الدول أن الشباب الذي يشكل العمود الفقري للثورة هو سورية المستقبل التي ستتعامل معها، وحيث أن جيل الحاضر والمستقبل وضع نفسه على خارطة الأحداث، فلا يمكن التنكب لمطالبه تنكباً يُفهم أنه عداء، ولا سيما أنه اتسمت مواقف الحراك الثوري بالمعقولية والاتزان اللذين يفرضان الاحترام.

ولا شك أنّ قصة ليبيا كان لها أثر كبير على مشاعر الناس والتفكير بطلب المساعدة الخارجية. فقبل الحسم تشاءم الناس زيادة عن اللزوم، وبعد سقوط طرابلس صار هناك تقويم لأثر التدخل العسكري حالم أكثر من اللزوم، فلسنا متأكدين بعدُ من النتائج على المدى المتوسط والبعيد. وسوف أعود إلى ذكر الحالة الليبية لأنها تمتلك المخيلة وتوجه التفكير.

فما الذي نقصده بالتدخل الخارجي والحماية؟ كثير من التعليقات تتخيل ضربات جوية. ولكن ما أن يتخذ قرار التدخل حتى تزرع الدبابات والآليات العسكرية في رحم المناطق السكنية. ومهما كانت دقة القصف، المدنييون سوف يدفعون ثمناً غير قليل. واستراتيجية الحرب الجوية تقوم عادة بقصف المنشآت الحيوية تحت فكرة تقطيع أوصال النظام وحرمانه من مصانعه وجسوره، فهل هذا مبرر ومقبول لدى من يقول بالتدخل؟ وعدد سكان ليبيا صغير، وفي البلد نفط يمكن استخدامه لبناء المستقبل برغم استئثار الشركات التي قامت دولها بالمجهود الحربي، أما الموارد القليلة لسورية وما بقي من نفطها لا يكفي لمهمة البناء بعد التخريب. وعبّر عن هذه المفارقة الاقتصادية صديق ليبي قائلاً: يستطيع اللليبيون تحقيق الاكتفاء الذاتي بالاصطفاف على ساحل طويل بيد كل منهم سنارة صيد. وبفرض وجود الموارد، هذا لا يضمن إمكانية إعادة البناء، فنفط العراق اليوم يعجز عن تحقيق ذلك.

إن طلب توجيهات الضربات الجوية هو في الوقت نفسه طلب لتحويل الثورة من مسارها السلمي إلى مسار مسلح. فهل هذا مقبول بين كل أجنحة المقاومة الشعبية اليوم؟ وكما هو مشهود، والذي فاجأ المراقبين وفاجأ النظام أيضاً، سعة الشرائح التي اصطفت مع الثورة وقدمت شيئاً من الخدمة، وكانت من قبل راضية بالمقسوم على كره. وكثير من هذه القوى سوف يُحال بينها وبين النضال السلمي؛ فما الذي يمكن أن تقدمه شخصيات في الثمانينيات من عمرها لثورة مسلحة؟

ثم إنه من المسلّم به أن القوة الجوية بنفسها -مهما بلغت- لا تستطيع تغيير نظام سياسي، وتفتقر إلى مقاومة على الأرض تحمل السلاح. ولكن التسليح ليس بالهين. كيف توصل السلاح إلى المدن المحاصرة من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها؟ ويتضح هذا الأمر حين نتذكر أن التسليح المطلوب لا يقتصر على الرشاشات الخفيفة، كما أظهرت التجربة الليبية. والتسليح المتناثر على مجموعة هنا وأخرى هناك يساهم في حصد الأوراح لا حمايتها.

وهب أن تسليحاً وافياً قد جرى، فكيف يمكن تزويد المقاتلين بالذخيرة والامدادات؟ فميزة المقاومة السلمية أن مدادها هو اقتيات الجسم وخط القلم وصدح الحنجرة وذكاء الدماغ، ولا يمكن السيطرة الكاملة على أي منها. أما السلاح فهو قطعة ميتة تحتاج الإمداد المستمر، وكلفته تنافس الصرف على ضروريات الحياة في وقت شح وحاجة. وللعلم، تقرير البنتاغون منذ بضعة أيام أشار إلى أن إيصال ليتر واحد من الوقود إلى القوات الأمريكية في أفغانستان يكلّف 12 دولاراً.

وإذا انقدحت المعركة عسكرياً، وجد الثوار أنفسهم في مواجهة مواطنين قلوبهم مع الثورة ولكن ظرفهم لم يسمح لهم بالظهور. وتحديداً، نستطيع الجزم بأن أغلب عناصر الجيش لا توافق على قتل المواطنين العزل. ونظراً للصعوبة العملية لانشقاق أعضاء الجيش وسلامتهم بعد ذلك، سوف توجه المقاومة سلاحها ضد أشقاء من أبناء الوطن، لهم أهل وأبناء وأزواج يتعاطفون معهم. وكما هو معروف ومقرر، استخدام السلاح يكون له أهداف واضحة عند مواجهة عدو خارجي، أما في النزاع الداخلي وفي غياب تمايز الصفوف، يمكن أن ينقلب استعمال السلاح لعنة على الجميع.

ومن المعروف أن الحراك ليس منظماً على نحو هرمي محكم، وهذا من مكامن قوته ويناسب تكتيكاته السلمية. غير أن المقاومة المسلحة تفتقر إلى تنظيم محكم وضبط فائق، وإلا كانت قوتها عرضة للانفجار الذاتي من غير اتجاه، ولظهرت فرصة تشكل ميليشيات مسلحة وفق ولاءات محلية.

وحين تنقلب المقاومة إلى مقاومة مسلحة، تكتمل قناعات فئاتٍ موالية للنظام بضرورة زيادة تسلحها للدفاع عن أنفسها. كما يقوم النظام أو أي طرف له مصلحة في وضع قدم في سورية بشراء ذمم فصائل نفعية مدسوسة على المقاومة تعمل لحساب أغدق عرضٍ موجود. ولنتذكر أنه عندما تكون المقاومة مسلحة فهذا يعني أن السلاح سيصبح في أيدي الصادقين المخلصين وفي أيدي الانتهازيين الفاسدين أيضاً. والمقاومة السلمية تقطع الطريق على الفاسدين لأن تحركاتها طاهرة بذاتها يصعب استغلالها أو التحايل عليها. فمثلاً كل الذي يستطيع أن يفعله فاسد ماكر في سياق المقاومة السلمية هو رفع يافطة ذات عبارة مشكلة؛ وسرعان ما يمكن استدراك الأمر. أما مع وجود السلاح، فيستطيع الفاسد أن يطلق النار بآن معاً على الفريقين المتنافسين، فيحسب كل منهما أن الآخر غدر به. ولنتذكر أن معتوهاً نفسياً واحداً يستطيع إشعال النار على غفلة في غابة كاملة وفي حي كامل تأكله النار. وإذا كانت الحالة السورية معقدة جداً –كما هو مقرّر- فإن التسلح قد يؤدي إلى تطويل النزاع بعد دخول مصالح تجار السلاح الذين يزودون كل الفرق المتقاتلة؛ والنزاع في العراق وأفغانستان وعدد من دول في أمريكة اللاتينية شاهد على ذلك.

وإذا انقلبت المقاومة السلمية إلى مقاومة مسلحة، كيف يمكن ضمان عدم انفلات الأضغان من معاقل الرشد ومهاجمة قرى الطائفة العلوية مثلاً؟ المعارضة إلى اليوم غير طائفية لا في أهدافها ولا في تكتيكاتها، بل هي على عكس ذلك. ولكن هذا لا يعني أنه ليس هناك احتقان طائفي، وإنما الاحتقان الطائفي (المفهوم والذي يمكن تفسيره) يحتويه التعقّل وتمتصه سلمية التحرك. وصحيح أن الشروط الموضوعية لحرب أهلية غير متوافرة في سورية، غير إنه يمكن أن تنقدح عمليات ثأر ترفع شعارات طائفية تقوم بها مجموعات مجهولة نيابة عن الشعب المسكين. وما الذي يضمن عدم الظهور المفاجئ لفتاوى تفسر المشكلة السورية بالأبعاد الاعتقادية، بدل التركيز على الواقع الموضوعي والأبعاد السياسية التي تمكِّن الاستبداد وتعطيه القوة، ذلك الاستبداد الذي له استنادات متعددة غير محصورة في مذهبية؟ وكيف نضمن عدم الظهور المفاجئ لما يطلق عليه (السلفية الجهادية)؟ وقد يقال إنها لا توجد في سورية؛ وهكذا قيل في العراق، فلم تكن توجد من قبل الحاجة إلى توظيفها. المسيحيون يحبون وضعاً سياسياً فيه حرية، ولكنهم يتوجسون من نتائج الثورة على الرغم من سلميتها، فكيف إذا أصبحت مسلحة؟ الأقليات التي بطبعها تختار الاحتياط والحذر سوف يتغير موقفها إذا استُعمل السلاح.

وأذكر أني كنت في نقاش مع طالب شيعي إيراني عاقل، فنبّه إلى أن أي اعتداء على مقام السيدة زينب في دمشق سوف يجلب قوات حزب الله لحماية المقدسات. ولنسأل أنفسنا هل من الوارد أن يقوم النظام بهذا إذا شعر نفسه محصوراً، أو هل من الوارد أن تتبرع بالقيام بمثل هذه الأعمال دولةٌ مجاورة تعادي المشروع العربي برمته.

ومن قال إن حلف الناتو قادر على حسم الموقف في سورية؟ ولنتذكر أن روبرت غيتس وزير الدفاع الأمريكي السابق قال في كلمة تنحّيه عن منصبه أن حلف الناتو فقير التسليح، وأن أعضاء من الحلف يتمتعون بمزايا عضويته ولا يشاركون كفاية في نفقاته، وأنه صعب عليهم الاجتماع على قرار واحد. وعرج غيتس على الحالة الليبية والبطء في القدرة على الحسم برغم أنه بلد سيء التسليح وليس مكتظاً بالسكان. ومن ناحية عملية، طلب التدخل في سورية هو طلب لتدخل الولايات المتحدة وإمكانياتها الحربية، فهل هذا مقبول لدى الثورة؟ وهل الولايات المتحدة التي تعاني مشاكل مالية حادة راغبة في هذا التدخل، وما هو الثمن الذي يترتب على هذا؟ وإذا دخلت الولايات المتحدة حلبة الصراع على نحو مباشر، فهل سيمكّن هذا النظام حشد مقاومة (وطنية) ضدّ الاستعمار والإمبريالية؟

وكثير من التعليقات تشير إلى تركيا لتقوم بقيادة الجهد الحربي. ولكن تدخلها العسكري سيراه البعض غزواً عثمانياً غير مرغوب به. وهل تركيا أصلاً مستعدة للقيام بهذه المهمة واحتمال التفريط بانجازاتها الاقتصادية وإهدار المال في مغامرة حرب ليست مضمونة النتائج؟ وهل تركيا التي طامنت من نفوذ العسكر في السياسية مستعدة لإعادة إدخالهم فيها من خلال انتصار بطولي؟ وهل تركيا صديق ساذج يهشّ لمغامرة عسكرية من غير حساب دقيق للموازنات السياسية في نظامه البرلماني الذي يمكن أن تنقلب فيه بسهولة معادلة الفوز بالانتخاب.

فإذا كان وضع الناتو وتركيا على ما ذكرت، فهل هناك أسوء من بناء الآمال على سراب، الأمر الذي يفلّ عزم الثورة. فليس هناك أي معطيات موضوعية تشير إلى أن الناتو أو الولايات المتحدة تنوي التدخل العسكري. فكيف نركن إلى احتمال ما زال بعيداً. ولا يخفى أن طلب التدخل هو بالدرجة الأولى قرار الحراك الداخلي. ولكن ينبغي أن لا نغفل لحظة عن أن التدخل العسكري –أو أي نوع من التدخل والمساعدة- لا ينبني على طلب المستغيث المظلوم، وإنما على حساب تقدير الكلفة والربح (cost-benefit analysis) وعلى حسابات استراتيجية. ويبدو واضحاً وجلياً أنّ الذي يصرّ عليه المجتمع الدولي هو عدم الإحراج بسفك الدماء، وإجراء (إصلاحات) ما. هذا ما تفيده القراءة الموضوعية للمواقف الدولية. وما فوق هذا من الضغط تتأرجح مواقفه بحسب شدة الحراك الداخلي.

وإذا كانت الاستعانة مطلوبة، فلماذا هي الحرب العسكرية قطعاً؟ هل التشويش الكامل على منافذ الإعلام يغني عن الحرب أو يخفف من الحاجة إليها؟ ويجري التساؤل فيما إذا كان إنقاذ الحالة الليبية ممكناً بوسائل أقل خشونة. فلو شوش الناتو على التلفزيون والإذاعة الليبية الرسمية وجعل البث غير ممكن لمدة أسبوع أو اثنين، لكان عاملاً مزعزعاً لنظام القذافي إلى درجة كبيرة جداً. ولو سعى إلى التشويش المكثف على اتصالات النظام الليبي مع الكتائب المتناثرة في صحارى واسعة لكان له أثر عظيم. ولنتذكر كيف كان الثوار الليبيون في أول الأمر يتقدمون ولا يعرفون بوجود كتائب القذافي إلا عندما يلتظون بنارها؛ أي أنهم كانوا يفتقدون أبسط أدوات الاستطلاع؛ فهل كان بالإمكان شراء معلومات أساسية من الشركات الخاصة للاستطلاع مقابل أسعار سخية؟ وأشير هنا إلى أن المزارعين الأمريكيين يطالبون بطرح طائرات الاستطلاع الشخصية في السوق التجارية لاستعمالها في مراقبة حقولهم الكبيرة. وما زالت هذه الطائرات في حوزة الجيش، وهي صغيرة وخفيفة يبعثها الجندي خلف الجدار أو التلة الصغيرة فتصور الموجود تصويراً لحظياً يعرض على شاشة صغيرة بيد الجندي ثم ترجع الطائرة إليه. ولست بخبير عسكري، ولكن أخبار هذا النوع من الأدوات المساعدة في القتال هي من جملة المعلومات العامة التي كانت تناقش في الراديو في أمريكة. وأحسب أني لا أقع في فخ التفسير التآمري إذا قلت إنَّ الوسائل التي استُعملت في ليبيا كانت أكثر ما يمهِّد لتبعيتها فيما بعد.

وبفرض أن التسلّح هو الطريق الصائب، فما هي أنواع السلاح المطلوبة؟ فهل العتاد المطلوب هو الدفاعي الذي يقلِّل من احتمال الإصابة (السترات الواقية من الرصاص مثلاً)، أم هو هجومي. ولتنذكر أن السلاح المحمول شخصياً الـ(بيترويت) أثبت جدواه في أفغانستان وأفقد الطائرات السوفيتية قدرتها وفاعليتها. والتزويد بمثل هذا السلاح يعتبر مساعدة فائقة، ولكنه دون التدخل المباشر ويمكن أن يوصف بأنه صفقة سلاح مشكورة اشتراه الشعب بماله واستعمله بكدّه، وليس فيه منّة دعوى التحرير من قبل قوات أجنبية.

يدرك الجميع أن التغيير في سورية هو أصعب بكثير من تغيير الأنظمة في تونس وليبيا ومصر، فالثورة السورية تحمل على كاهلها تغيير توازنات إقليمية تمتد على كل اتجاهات الدول المحيطة بها، بالإضافة إلى إيران. وليس مبالغة القول إن تغييراً جذرياً في سورية يعني تغييراً في التوازنات السياسية في كل هذه الدول المجاورة، وستصل ردّات زلزاله إلى إيران على نحو قوي. وربما يمكن أن نفهم التحول الجزئي في الموقف الإيراني من هذه الزاوية، وهو تحول مفاجئ لم يكن متوقعاً. وبشكل عام، لم تكن الإنجازات السياسية على المستويين الإقليمي والعالمي ممكنة لولا التضحيات الباسلة للثورة ومواقفها المتزنة وسلميتها الواثقة.

ولا بد عند هذه النقطة من التنبيه إلى أن سلمية الثورة لا تعني الاستسلام السلبي، ومواقع الثورة تذكِّر بهذا، وأحدث النشرات الواضحة هي “الدليل السريع للمقاومة المدنية”. أي أن سلمية الثورة لا تعني الذلّ والاستسلام المهين، ولا يخامر أحد شك في أن أرومة الثورة هي رفض المذلّة. ومن ناحية أخلاقية بحتة يصح للإنسان أن يدفع بالقوة –الأخف بالأخف- العدوان عن نفسه؛ وإنها لمرتبة أخلاقية أعلى أن يقبل المرء ضرراً على المستوى الفردي لكي يردّ ضرراً شاملاً على المستوى الجماعي.

وهبْ أنّ تدخلاً مباشراً هو المطلوب في نهاية الأمر. فهل هذا هو الوقت الصحيح؟ أولا يلزم تدبّر أهل الخبرة للفصل في هذا الأمر الخطير؟ ولما كانت تبعات التدخل تصيب كل الشعب السوري، أليس المطلوب أن يكون هناك قبول واسع للتدخل؟ والتدخل قبل وجود هيئة سياسية تتكلم باسم الشعب أمر مشكل جداً.

ثم إنه كلما كان هناك إنجاز من الداخل ساهم في تخفيف التبعية التي تلي التدخّل الخارجي. فمثلاً، لو استطاع ثوار ليبيا أن يقوموا بتطهير البلاد واحتاجوا قوات الناتو فقط عند دخول طرابلس لكان أفضل لمستقبل ليبيا. ومبرر التدخّل في سورية كان يمكن أن يقال قبل شهر أو شهرين، وكان قائماً عقب الأحداث الفظيعة في درعا. إذاً، علينا أن نتفكر في النقطة التالية: هل استنفد الحراك السوري الذاتي كل ما في جعبته، وهل استنفدت القوى الدولية كل وسائل الضغط والتأثير؟ العصيان المدني الشامل لم يحدث بعد، وما زالت هناك ضغوط سياسية دولية لم تكتمل، وهناك ضغوط اقتصادية لم تتراكم بعدُ آثارها.

إن الإبداع في التفكير يقتضي أن لا يستسلم الفعل -على مستوى الوعي واللاوعي- إلى الشائع الرائج. وإذا كان ابن خلدون يقول إن العدل أساس العمران، فنقول إنَّ الحرية هي أساس الإبداع؛ والعدل والحرية أساسان للبناء. والعمل الثوري السوري الذي تحرر من القيود أتى بكل أنواع الإبداع، في دقّة حساب المواقف وتعديل التكتيكات وصيانة السمعة. أفلا يقتضي هذا الكمون الإبداعي مزيد التفكير بالبدائل وعدم الارتهان لخياراتٍ يبدو أنه لم يأتِ وقتها بعدُ أو أنها لا تناسب الحال السوري؟ ولا أستطيع أن أخفي إعجابي بالمقترح الذي تناولته صفحات الإنترنت (ولا أعلم مصدره) وأنقله بحسب ما وصلني: “كثر الحديث عن التسلح أو التدخل الخارجي من أجل حماية المتظاهرين المدنيين بسوريا … وتناسينا نقطة هامة تحمي المدنيين بشكل أوسع وأفضل أضمن من الطريقتين السابقتين وهي نقطة هامة يجب التركيز عليها من قبل الناطقين باسم الثورة أو المعارضين بشكل عام. علينا الطلب من مجلس الأمن بصياغة قرار يقضي بدخول مراقبين دوليين محايدين و كل الصحفيين ووكالات الأنباء العالمية الى مواقع الأحداث في سورية والسماح لهم بحرية التحرك والمراقبة والتصوير و إجراء اللقاءات …. وبالتأكيد أن هذا القرار لن تستطيع لا روسيا ولا الصين ولا غيرها التصويت ضده …. الإعلام الحر و الطليق بكل المحافظات والمدن هو أسهل وأضمن وسيلة لحماية المتظاهرين المدنيين في سورية”. فهذا مثال واضح وعملي لتفكير إبداعي وعملي، وفيه تذكرة إلى أن الثورة لم تستنفد كل الوسائل الممكنة على المستوى العالمي.

وفي النهاية، لا بدّ من التأكيد على أن المعالجة تتكلم بلغة المصالح السياسية الأقرب أن تتطابق مع ما يمكن أن يحدث عملياً، وليس بلغة التخوين لمذهب الحاجة الآنية إلى التدخل الخارجي أو مذهب وجوب إبقاء كل الخيارات مفتوحة. وعنوان المقال يؤكد على أنّ لكل خيار ثمن وتبعات.

وأولاً وأخيراً، علينا أن نذكّر أنفسنا بأن التدخل الخارجي على نحو مباشر معناه فقدان المبادرة الذاتية. السلوك الدولي إلى هذه اللحظة يستجيب لضغط الجهاد السلمي في الداخل ولأجندته المتبنّاة. وسينعكس الأمر إذا صار هناك تدخل عسكري خارجي، وسيصبح الحراك الداخلي هو التابع.



———————————

د.مازن هاشم
09-09-2011