] ماهية المحاكم الميدانية العسكرية  و مدى مشروعية الأحكام الصادرة عنها  [     

    

 هيثم المالح

    بوصول حزب البعث إلى السلطة بانقلاب عسكري صدر العديد من القوانين والمراسيم التشريعية المتعارضة مع الدستور القائم آنذاك والتي أسست لحكم استبدادي شمولي تنعدم فيه الحريات العامة وحقوق الإنسان ، بدءٍ من إعلان حالة الطوارئ بموجب أمر عسكري خلافاً لقانون الطوارئ نفسه ، مروراً بالمادة 16 من المرسوم التشريعي رقم 14 الصادر عام 1969 والمتضمن مايلي :

ولا يجوز ملاحقة أي من  العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكولة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير .

ثم القانون 49 لعام 198. الذي قضى بإعدام كل منتسب للإخوان المسلمين بمفعول رجعي خلافاً للدستور السوري الذي أقر عام 1973 وخلافاً لسائر القوانين المحلية والمعاهدات الدولية.

 وكانت الأحكام الصادرة بالاستناد إليه معدومة من الناحية القانونية والدستورية  .

وعندما وجد الرئيس الراحل حافظ الأسد حكمه مهدداً وسع صلاحية المحاكم الميدانية العسكرية لاستخدامها  لتصفية خصومه السياسيين على رأسهم الإخوان المسلمين  بالمرسوم التشريعي الذي ننشره بنصه الكامل .

                                     مرسوم تشريعي رقم 32 تاريخ 1/7/198.

                                      رئيس الجمهورية بناء على أحكام الدستور

يرسم مايلي :

المادة 1- يضاف إلى نهاية الفقرة ب من المادة 2 من المرسوم التشريعي رقم 1.9 تاريخ 17/8/1968 النص التالي :

                                  أو (عند حدوث اضطرابات داخلية).

المادة 2- ينشر هذا المرسوم التشريعي في الجريدة الرسمية ويعتبر نافذاً من تاريخ 25/6/.198.

 وكان قد صدر في أعقاب الثامن من آذار مرسوم تشريعي بإحداث المحاكم الميدانية العسكرية برقم 1.9  تاريخ 17/8/1968 ندرجه فيما يلي لتكتمل الصورة ولنستطيع تسليط الضوء على هذا النوع من المحاكم التي استقر الفقه القانوني على أنها نوع شاذ من أنواع القضاء .

                                            مرسوم تشريعي رقم 1.9

                                               تاريخ 17/8/1968

أحداث محاكم الميدان العسكرية

بناء على أحكام قرار القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث العربي الاشتراكي رقم 2 تاريخ 25/2/1966

وعلى قرار مجلس الوزراء        تاريخ 14/8/1969

يرسم مايلي :

مادة 1- تحدث محكمة أو أكثر : تسمى محكمة الميدان العسكرية .

تتولى هذه المحكمة النظر في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية والمرتكبة زمن الحرب أو خلال العمليات الحربية التي يقرر وزير الدفاع إحالتها إليها  .

                يسري اختصاص هذه المحكمة اعتباراً من 5/6/1967

مادة 2- يقصد في هذا المرسوم التشريعي مايلي:

أ‌-       زمن الحرب : هو المدة التي تقع فيها اشتباكات مسلحة بين الجمهورية العربية السورية

                     وبين العدو ويحدد بدؤها وانتهاؤها بمرسوم .

ب‌-   العمليات الحربية: الأعمال والحركات التي يقوم بها الجيش أو بعض وحداته في

                         الحرب أو عند وقوع صدام مسلح مع العدو .

مادة3- تؤلف المحكمة بقرار من وزير الدفاع من رئيس وعضوين، ولا تقل رتبة الرئيس عن

         رائد كما لا تقل رتبة كل من العضوين عن نقيب ، ولا يجوز محاكمة أحد ضباط القوات

        المسلحة أمام محكمة يكون رئيسها أدنى منه مرتبة .

مادة 4- أ- يقوم بوظائف النيابة العامة لدى  المحكمة قاضٍ أو أكثر من النيابة العامة العسكرية

           يجري تسميتهم بقرار من وزير الدفاع .

ب‌-   تتمتع النيابة العامة لدى المحكمة بجميع السلطات والصلاحيات الممنوحة للنائب العام وقاضي التحقيق العسكريين .

ت‌-   تصدر قرارات النيابة العامة قطعية لا تقبل أي طريق من طرق الطعن .

مادة 5- يجوز للمحكمة ألا تتقيد بالأصول والإجراءات المنصوص عليها في التشريعات

          النافذة .

مادة 6- تطبق المحكمة العقوبات المقررة قانوناً ولا تقبل الأحكام التي تصدرها أي طريق

         من طرق الطعن .

مادة 7- لا تنفذ أحكام محكمة الميدان العسكرية إلا بعد التصديق عليها من السلطة

          المختصة، وتنفذ وفاقاً للتشريعات المرعية .

مادة 8- أ- تخضع أحكام الإعدام لتصديق رئيس الدولة، أما باقي الأحكام فيجري تصديقها

            من وزير الدفاع .

ب- لرئيس الدولة ووزير الدفاع كل بحسب اختصاصه أن يخفف العقوبة أو يستبدل بها عقوبة أخرى ، أو يلغيها كلها مع حفظ الدعوى .

ويكون لحفظ الدعوى مفعول العفو العام . كما يجوز له أن يأمر بإعادة المحاكمة أمام محكمة ميدان عسكرية أخرى ، ويجب أن يصدر القرار في هذه الحالة معللاً ، فإذا صدر الحكم في المحاكمة الثانية بالبراءة وجب التصديق عليه في جميع الأحوال ، وينفذ فوراً .

ث‌-   لوزير الدفاع ضمن اختصاصه أن يوقف تنفيذ العقوبة المقضي بها ، وفي هذه الحالة تطبق قواعد وقف تنفيذ الأحكام المنصوص عليها في قانون العقوبات العام .

ج‌-   لرئيس الدولة أو وزير الدفاع كل بحسب اختصاصه بعد التصديق على الأحكام بالإدانة أن يمارس الصلاحيات المنصوص عليها في الفقرتين السابقتين .

مادة 9- ينشر هذا المرسوم التشريعي في الجريدة الرسمية .

وإذا أضفنا التعديل الذي صدر في عام 198.المتقدم إلى نص الفقرة 4 من المادة 25 فتصبح كمايلي:

ت‌-   العمليات الحربية : الأعمال والحركات التي يقوم بها الجيش أو بعض وحداته في

                           الحرب ،أو عند وقوع صدام مسلح مع العدو ، وعند حدوث

                            اضطربات داخلية.

من تدقيق نص المرسوم السابق نجد:

أ‌-       أن اختصاص المحكمة محصور بالنظر في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية والمرتكبة زمن الحرب أو خلال العمليات الحربية .

ثم حددت الفقرة أ- معنى زمن الحرب : بأنه هو المدة التي تقع فيها اشتباكات مسلحة بين الجمهورية السورية وبين العدو ويحدد بدؤها وانتهاؤها بمرسوم .

ثم جاءت الفقرة ب لتحدد معنى العمليات الحربية وهي معطوفة بالمعنى على الفقرة أ- إذ نصت على تفسير معنى العلميات الحربية بأنها الأعمال والحركات التي يقوم بها الجيش أو بعض وحداته في الحرب وعند  وقوع صدام مسلح مع العدو.

وبالتالي فإن الفقرة ب ليست سوى تأكيداً للفقرة "أ" وشرحاً لها إذ أن ما يجري في الحروب إنما هو أعمال وحركات تقوم بها الجيوش المتحاربة .

وعلى هذا فإن مشروعية المحاكم الميدانية مستمدة من سرعة الحسم في جرائم ترتكب أثناء الحروب وهي مما تقتضيها حالة الحرب نفسها ، فلو أخل عسكري بواجباته أو فر من الخدمة أو تخابر مع العدو ، إذاً لوجب أن يحاكم محاكمة سريعة حفاظاً على معنويات الجيش وهيبته أثناء الحرب ومنعاً للتخاذل باعتبار أن المحاكمات العادية تستغرق وقتاً طويلاً في حين أن حالة الحرب تقتضي سرعة البت في الجرائم المرتكبة أثناءها .

وعلى هذا وحرصاً على أن يكون عمل المحاكم الميدانية تحت سقف المشروعية فقد نصت الفقرة أ من المادة المار ذكرها بأن بدء العمليات الحربية وانتهاؤها يحدد بمرسوم وبالتالي فهي محاكم نائمة تنتظر صدور المرسوم المبين آنفاً لتصبح محاكم متحركة ومستيقظة تنتظر إحالة مرتكبي جرائم أثناء المعارك إليها حتى تحاكمهم.

 إذاً كيف لنا أن ننظر إلى المادة التي أضيفت إلى الفقرة ب بموجب المرسوم التشريعي رقم 19 لعام 198. والتي اعتبرت الاضطرابات الداخلية من اختصاص المحاكم الميدانية بغض النظر عن صحة هذا المرسوم وانسجامه مع الدستور من عدمها، فإن هذه المحاكم لا يجوز لها أن تحاكم المدنيين لسببين :

أ‌-       لأنها أصلاً محدثة لمحاكمة العسكريين وبالتالي فلو فرضنا جدلاً صحة صلاحياتها لمحاكمة العسكريين أثناء الاضطرابات لكان من الواجب إصدار مرسوم لتحديد بدء العمليات الحربية أو بدء تفعيل المحكمة وإيقاظها من سباتها .

2- في كل الأحوال فإن إضافة نص يشمل صلاحياتها للعمل أثناء الاضطرابات الداخلية لا يعني بالضرورة محاكمة المدنيين إذ أن مطلع المرسوم 1.9 واضح بأن اختصاصها هو النظر في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية ، وبالتالي فلا يشمل المدنيين .

ولم نجد أي نص في ثنايا المرسومين المار ذكرهما يبيح محاكمة المدنيين الذين ما كان يجوز للمحاكم الميدانية التصدي لمحاكمتهم .

وعلى هذا فإن الملاحظ على المرسوم "32" الذي أضاف إلى نص الفقرة ب من المادة الثانية عبارة ( عند حدوث اضطرابات داخلية ) أن هذا التعديل المضاف

أ‌-       لم يغير من طبيعة اختصاص المحاكم الميدانية والذي هو لمحاكمة العسكريين وفق قانون العقوبات العسكري .

ب‌-   إن صلاحيات المحاكم الميدانية لا يمكن أن يبدأ عملها إلا بعد صدور مرسوم يعلن أن البلاد في حالة اضطرابات داخلية تماماً كما يعلن عن حالة الحرب .

إلا أن مرسوماً كهذا لم يصدر وبدأت المحاكم الميدانية عملها دون سند من القانون ، كما تحرك وزير الدفاع بإحالته قضايا الناس بالجملة إلى المحاكم الميدانية لبدء تصفية جماعية دون وازع من قانون أو ضمير .

والأغرب من كل ذلك أن هذه المحاكم لا تزال تعمل إلى يومنا هذا وتحاكم حتى أناساً  ارتكبوا جرائم عادية لا تدخل في اختصاص القضاء العسكري .

في تشكيل المحكمة :

برغم أن المرسوم التشريعي رقم 1.9 الذي أحدث المحاكم الميدانية قد صدر بداية العهد الاستبدادي عام 1968 فإنه جعل المحكمة من محاكم لجماعة بمعنى أنها ليست مشكلة من قاضي واحد وإنما من رئيس وعضوين وتمثل فيها النيابة العامة  .

إلا أن الواقع العملي أنه لم يمثل أي متهم أمام محكمة مشكلة من ثلاثة قضاة وبحضور النيابة العامة، ولكن المحاكمات كانت مشكلة من قاض واحد وهو ما يشي ببطلان أحكام هذه المحكمة.

في النيابة العامة : فقد بينت المادة الرابعة بفقرتيها أن النائب العام أمام هذه المحكمة يتمتع بصلاحيات واسعة وقراراته قطعية ، وبالتالي فإن هذه الصلاحيات أهدرت حقوق المواطنين المدنين الذين أحيلوا إليها فعلاً ومن حقهم في الدفاع أمامه ومراجعة طرق الطعن بقرارات النائب العام .

في هذا النص جمعت وظيفة قاضي التحقيق المنصوص عنها في المادة 23 وما بعدها من قانون أصول المحاكمات العسكري مع وظيفة النائب العام وذلك خلافاً لقانون الأصول.

وباعتبار أن حكم المحكمة الميدانية قطعياً مما يفوت على المحكمة فرصة الطعن بالأحكام والقرارات التابعة لها مما يخل بعدالة القضاء .

نفاذ أحكام المحكمة :

نصت المادتان "7و8" على أن الأحكام لا تنفذ إلا بعد التصديق عليها من رئيس الدولة إذا كانت أحكام إعدام ومن وزير الدفاع لما دون ذلك من عقوبات .

كما أعطت الفقرة ب من المادة "8" لرئيس الدولة ووزير الدفاع صلاحيات تخفيف العقوبة أو استبدالها بأخرى أو بإلغائها كلها .

وهذا ما يشي بأن الأحكام التي تصدر عن هذه النوع من المحاكم إنما هي أحكام سياسية وليست قضائية أو قانونية وهي قريبة المثال مع أحكام محكمة أمن الدولة .

وقد صرح وزير الدفاع السابق العماد مصطفى طلاس بمجلة ( دير شبيكل) الألمانية بأنه كان يوقع على أحكام إعدام مائة وخمسين سجين أسبوعياً وهو ما يجعله مسؤولاً شخصياُ عن هذه الإعدامات .

مما تقدم يتضح :

أولاً: إن صلاحيات المحاكم الميدانية محصورة بمحاكمة العسكريين وامتدادها لمحاكم المدنيين غير صحيح ويجعل الأحكام الصادرة عنها معدومة .

ثانياً : إن في استمرار عمل هذا النوع من المحاكم يرتب مسؤولية كاملة على الجهات التي تحيل إليها الأشخاص سيما في حال الجرائم العادية .

الطبيعة الاستثنائية لهذا النوع من المحاكم :

إن انشاء الأقضية الاستثنائية أسلوب شاذ من أساليب النظم الشمولية التي لا تقبل اختصاص القضاء العادي في جرائم أو منازعات بعينها و لا شبهة في أن انتزاع ولاية القضاء العادي في صدد منازعة أو جريمة بعينها يكشف عن انحياز في المعاملة و إلا فلو كان الأمر أمر احتكام إلى القانون لما كان هناك محل لأن تشكل محاكم أو لجان خاصة و حتى لو لم تعط هذه الجهات سلطات استثنائية يتجاوز بها حدود القانون العام و تنتهك بها ضماناته ،فان تأليف هذه المحاكم و اللجان بحد ذاته انتهاكا لمبدأ حيدة القضاء(عن بحث للأستاذ نصرت ملا حيدر في مجلة المحامون).

  لقد دأب المشرع في سورية على إنشاء العديد من المحاكم و اللجان الاستثنائية بغرض سلب القضاء اختصاصاته و منها:

1-  المحاكم العسكرية التي وصفها رجال الفقه الدستوري بأنه أسلوب شاذ لا يأتلف مع قيام القضاء العادي كسلطة مستقلة كما لا يأتلف مع الأسلوب الديمقراطي في الحكم و قد أتت دساتير عديدة منها عربية على منع إنشاء مثل هذه المحاكم.

2-  و من هذه المحاكم محاكم الميدان العسكرية التي لا تتقيد بأصول و لا تتقيد بالعقوبات و القضاة فيها لا يشترط تخرجهم من كلية الحقوق و لا يربطهم بالقانون أي رابطة، و التي يكون من اختصاصها أصلا محاكمة العسكريين في حالات محددة، إلا أن مرسوما تشريعيا قضى بتوسيع صلاحيات هذه المحاكم لمحاكمة المدنيين.

3-  كذلك من هذه المحاكم محكمة أمن الدولة العليا المنشأة بموجب المرسوم التشريعي رقم 47 لعام 1968 المعدل و أحكام هذه المحكمة يصادق عليها رئيس الجمهورية الذي له حق تعديلها أو إلغائها أي أن أحكام هذه المحكمة خاضعة لرقابة السلطة التنفيذية و تصديقها و لا رقابة عليها لأية جهة قضائية .

كل هذه المحاكم الاستثنائية وأمثالها سلبت القضاء اختصاصه و حصرت عمله في نطاق محدد و نالت من حيدته و هيبته، وبالتالي فإن محكمة الميدان العسكرية كما بينا آنفاً هي :

1-    محكمة استثنائية .

2-    محكمة اختصاصها للعسكريين .

3-    لا تعمل إلا بعد صدور مرسوم بعملها .

وعليه فالأحكام الصادرة عنها ، هي أحكام لا ترقى إلى رتبة المحاكمة العادلة والقانونية ، وتعتبر منعدمة لجهة المدنيين ، ويكون قضاتها في هذه الناحية مسؤولون شخصياً عن نتائج أحاكمهم هذه.

الصفحة الرئيسية