اللاعنفية مبادئُ العصيان المدنيِّ وأُسُسُه

طباعة

اللاعنفية مبادئُ العصيان المدنيِّ وأُسُسُه: جان ماري مولِّر

المقالة عن موقع ( معابر )

إنَّ المبدأ الأساسي للإستراتيجية اللاعنفية هو عدم المشاركة واللاتعاون. ويرتكز هذا المبدأ على التحليل التالي: إن تجذُّر المظالم عميقًا في مجتمعنا عائد إلى تواطؤ معظم أعضاء المجتمع وقبولهم وتعاونهم. عندما قام غاندي بتحليل عوامل الظلم الذي كانت الهند ضحيته على يد البريطانيين أكد قائلاً:

ليست البنادق البريطانية مسئولة وحدها عن عبوديتنا بقدر ما هو مسؤول تعاوُننا الإرادي مع هذه البنادق.[2] وفي معرض توضيح فكرته وتوسيعها قال: لا سلطة للحكومة خارج التعاون الإرادي أو القسري للشعب، لأن السلطة التي تمارسها الحكومةُ مستمَدة بكاملها من شعبنا: إذ لولا مساندتنا لما كان في مستطاع مئة ألف أوروبي أن يحتلوا سبع قرانا. [...] المسألة التي تنطرح علينا هي مواجهة إرادة الحكومة بإرادتنا، أو بعبارات أخرى، سحب تعاوننا معها، لأننا لو أظهرنا أنفسنا حازمين وموحَّدي النوايا، لاضطرت الحكومةُ إما إلى الانحناء أمام إرادتنا وإما إلى الرحيل.[3]

وبهذا يكون غاندي قد أعلن أساس استراتيجية العمل اللاعنفي: حين ترتكب حكومةٌ ما ظلمًا خطيرًا فإن ضحايا هذا الظلم يجب أن يسحبوا كلَّ مشاركة معها، كاملةً كانت أم جزئية، حتى تُرغَم هذه الحكومةُ على التخلِّي عن ظلمها.[4]

إن النقاش المتعلق بالعنف وباللاعنف هو، في أكثر الأحيان، مغلوط، خاصةً إذا كان يُراد أن يُفهَم منه أن الذين يشككون في اللاعنف مستعدون للجوء إلى العنف من أجل الوقوف في وجه الظلم، وذلك لـ"تشتيت المتكبرين ودحرجة عروش الأقوياء وإعلاء شأن الأذلاء وإشباع الجياع وردِّ الأغنياء صفر الأيادي". لكن أقصى ما نحاوله حيال الظلم ليس العنف، للأسف، لأننا قلما نكون مستعدين لتحمل مخاطر وتضحيات لسنا مقتنعين بفعاليتها. بل إن أكثر ما يغرينا هو موقف الجمود والتواطؤ الذي يحافظ على طمأنينتنا وراحتنا ومصالحنا الخاصة على أكمل وجه: نحن على استعداد للرضوخ والتعاون أكثر من استعدادنا للعنف. إن كلمة "تعاون" تُذكِّر عمومًا بموقف هؤلاء الذين يتواطئون مع العدو عند احتلاله أرض الوطن. لكن يجب إعطاء هذه الكلمة هنا معنى أشمل: نحن "متعاونون" حين نتواطأ مع هذا الشكل من الظلم أو ذاك: إن شعبًا مستعبَدًا وخانعًا، سواء استعبده الخوفُ أم قنع بهزيمته، هو الحليف الأمثل للحكم الذي يضطهده. فالرأي العام يتعلم الخضوع، وعندئذٍ يترسخ لديه الشعور بالقَدَرية. عند ذاك لا يكون التمرد معارضةً للنظام فحسب، بل احتجاج على صمت العامة السلبي. فالمعارضون، من خلال انتهاكهم قانون الصمت الجماعي، وبعصيانهم نظام العميان القانعين، يعكِّرون صفو الطمأنينة الاجتماعية ويثيرون الاستياء العام.[5]

غالبًا ما نضع، بارتياح كبير، اللاعنف في مواجهة العنف الذي، كما نعلم، يبقى غالبًا من صنع أقلية محدودة. الأجدى بنا أن نضع اللاعنف في مواجهة التعاون الذي تقوم به الأكثريةُ مع الظلم القائم. وفضلاً عن ذلك، يجب أن نؤكد من جديد: إذا لم يكن من خيار إلا بين المقاومة العنفية وبين التعاون فإن من الأفضل اختيار المقاومة العنفية.

انطلاقًا من هذا التحليل، فإن الاستراتيجية اللاعنفية تقوم على كسر هذا التعاون مع الظلم وعلى ممارسة ضغط اجتماعيٍّ يرغم المسؤولين على الرضوخ. إن وسائل عدم التعاون

[...] تهدف إلى الضغط على الخصم من خلال الرفض القاطع للمشاركة في وظيفة تكون ممارستُها أساسيةً للحفاظ على موقع الخصم.[6]

وعدم التعاون يقوم على رفض أكبر عدد ممكن من الناس التعاون مع المؤسسات والبُنى والقوانين والأنظمة التي تسبب الظلم وتصونه.

لقد أصر بعضُهم دائمًا على إظهار أعمال غاندي وكأنها دعوة للرجوع إلى العقل والضمير هدفها "إقناع" الأفراد و"هدايتهم". بالطبع، هذا الاهتمام لم يكن غائبًا عن بال غاندي، لكن الهدف المباشر والتلقائي لحملاته المتعلقة بعدم التعاون كان القضاء على البُنى التي تطيل أمد الاحتلال البريطاني لبلاده. لذلك قال: إن عدم تعاوننا لا يحمل حقدًا على الإنكليز، بل على النظام الذي فرضوه علينا.[7]

وقد كتب إبان الحملة التي قام بها في العام 1920 بأن الهدف من مقاطعة المؤسسات هو "تعطيل الجهاز الحكومي حتى نحصل على حقوقنا"[8]، كما أكد علانيةً أن "الأمة تسعى إلى شل الحكومة"[9].

على صعيد آخر، عندما تبين لمارتن لوثر كنغ أن التظاهرات البسيطة في الشوارع عاجزةٌ عن الإسهام في تحرير السود، أخذ يخطط، قبل أشهر من اغتياله، لتنظيم حملات عصيان مدني هدفها شل الحركة العادية للمؤسسات وإرغام الحكومة البيضاء على الرضوخ. فبحسب قوله:

إن المعارضة اللاعنفية يجب أن تنضج من الآن فصاعدًا لتبلغ مستوى آخر يتلاءم مع نفاد صبر متزايد لدى السود ومع مقاومة مُحكَمة من جانب البيض. هذا المستوى الآخر هو العصيان المدني للجماهير. إننا نحتاج إلى أكثر من تأكيد أنفسنا حيال المجتمع؛ نحتاج إلى قوة تُعطِّل آليةَ عمل وظائفه الأساسية.[10]

وهكذا يجب تنظيم المقاومة بدعوة كلِّ فرد في المجتمع إلى سحب دعمه للسلطات القائمة التي تغطِّي الظلم. ويصبح الضغط فعالاً انطلاقًا من اللحظة التي يتوصل فيها المقاومون إلى إنضاب منابع سلطة الخصم بحيث يفقد السيطرة على الوضع؛ وبهذا يتم إيجاد ميزان قوة لصالح المقاومين.

في فترة أولى، يمكن لعدم التعاون هذا أن يجري في الإطار الشرعي من خلال استنفاد جميع الطرق الشرعية. وفي هذا المجال، يبدو لنا ملائمًا استلهامُ الحكمة التي نادى بها الثوري الفوضوي منذ عهد قريب في أحد المؤتمرات: "سنصنع الثورة بكلِّ الوسائل، حتى بالوسائل الشرعية إذا أمكن!" لكن حين تبدو هذه الوسائل غير مجدية للقضاء على الظلم يجب الشروع عند ذاك في العصيان المدني.

ويقوم العصيان المدني على الإقرار بهذا المبدأ الذي بقي مجهولاً لوقت طويل، وهو أن الامتثال للقانون يُلزِم المواطنَ بتحمل مسؤولياته، مما يعني أن مَن يمتثل لقانون ظالم يتحمل، بالتالي، جزءًا من مسؤولية هذا الظلم. كتب غاندي: إذا كانت الحكومة تعمل بشكل سيئ نكون مسؤولين عن سيئاتها عبر تعاوننا معها في جعل هذا الشر ممكنًا. لذا يجب عليَّ سحبُ دعمي لهذه الحكومة، ليس بدافع الانتقام، بل لكي لا أشارك في تحمُّل مسؤولية الشرِّ الذي تسبِّبه.[11]

إن ظاهرة هتلر لم تكن ممكنةً لولا مشاركة السواد الأعظم من الألمان. جميع "مجرمي الحرب" الذين حوكموا بُعيد انتهاء الحرب اعترضوا مدافعين عن أنفسهم، قائلين بأن كل ما فعلوه كان امتثالاً لأوامر سلطة كانت قائمة شرعيًّا. لكن الضمير العالمي، على الرغم من ذلك، اعتقد أن من واجبه رفض هذه الحجج وإدانة أولئك المجرمين.

بالطبع، يمكن للفرد، في بعض الأوضاع، أن يخطئ في تقدير ما تقتضيه العدالة. لا أحد معصوم عن الخطأ في أحكامه وخياراته. ومع ذلك، لا يمكن للإنسان أن يصمِّم على التحرك إلا في ضوء ما يمليه عليه عقلُه وضميره. لذا فإن المجازفة بالخطأ لا يمكن لها أن تدفعه إلى التخلي عن مسؤولياته هو بالذات حيال أحكام وقرارات أناس آخرين يتعرضون فعلاً للمجازفة نفسها. غالبًا ما نتذرع بـ"عدم أهلية" المواطن العادي إمعانًا في إبقائه خاضعًا خضوعًا غير مشروط للسلطات القائمة، وندعي أن المشكلات الموجودة في غاية التعقيد وتتطلب معارف واسعة جدًّا وتحليلات معقدة للغاية لا يمكن إلا للمتخصصين التحدث عنها بمهارة. فكأنما يراد، من خلال حجة عدم جدارة المواطن، إرغامه على التنصل من مسؤولياته. والآن، أكثر من أيِّ وقت مضى، تختبئ السلطات القائمة خلف ستار سلطة التكنوقراط، لكي تُحيل كلَّ معارضة إلى الصمت. هنا أيضًا يطالعنا رياءٌ يجب فضحُه: ليس ضروريًّا الإلمام بالملف العلمي والتقني للقنبلة الذرية كلِّه لكي نتيقن من أن توازُن الرعب الذي تخلقه يقود البشرية إلى اللامعنى المطلق.

تقول النظرية التقليدية للديموقراطية بأن النظام الاجتماعي لا يحميه إلا الخضوع للقانون لأنه يمثل "إجماع الأكثرية" ولأن كل مخالفة لهذا القانون قد لا تؤدي إلا إلى "فوضى عامة". ضمن هذا الإطار، قد يبدو العصيان المدني إنكارًا لكلِّ حياة ديموقراطية. هذه الحجة لا يمكن رفضها في بساطة، بل تجب مناقشتُها. إن اللجوء إلى "قانون الأكثرية" فيما يخص المسائل التقنية يبدو معقولاً لأننا لا نملك قناعات في هذا المجال، بل مجرد آراء. كان غاندي يدرك جيدًا الأخطار التي تهدد توازُن المجتمع نفسه فيما لو ادعى كل واحد منا، دونما سبب، بأنه لا يتبع إلا أفكاره الشخصية، عندما قال: أكدت لي التجربةُ أني إذا كنت أعيش في المجتمع وأريد الحفاظ في الوقت نفسه على استقلاليتي، عليَّ أن أجعل اهتمامي مقتصرًا على المسائل الملحَّة من أجل إظهار المتطلبات الكاملة لاستقلاليتي. أما في مجالات أخرى، كتلك التي لا تتعلق بالدين أو بالأخلاق، فينبغي الخضوع لرأي الأكثرية.[12]

لكننا غير ملزَمين بقرارات الأكثرية حين يكون الأمر متعلقًا بالمعنى الذي نضفيه على الإنسان والتاريخ، وحين يورِّطنا هذا الأمر في مسؤوليات خطيرة حيال مسائل ملحَّة. يؤكد غاندي في هذا الصدد:

ليس لدى قانون الأكثرية ما يقوله حين ينبغي على الضمير أن يتكلم.[13]

إذ ليس القانون هو الذي يُملي ما هو عادل، بل إن العدالة هي التي تفرض القانون. من هنا، حين يكون هناك صراع بين القانون والعدالة، علينا أن نختار العدالة وأن نعصى الشريعة، لأن ما يجب أن يُلهِم الإنسانَ في سلوكه ليس ما هو شرعي بل ما هو "مشروع". في كانون الأول سنة 1920، في هذا السياق، تبدو الطريقة التي عدَّل بها غاندي النص الذي يحدد أساليب عمل حزب المؤتمر الهندي بالغة الأهمية: في حين كانت قوانين حزب المؤتمر تؤكد في وضوح أن عليه متابعة أهدافه "عبر وسائل قانونية"، أي شرعية، استطاع غاندي أن يجعل حزب المؤتمر يصوت لصالح قرار يقضي بأن يعمل الحزب "وفق الوسائل المشروعة والسلمية كلها"[14].

وهنا نضيف قائلين إن كل مجتمع يُفترَض فيه أن يستعمل الوسائل التي تسمح له بحماية نفسه من الأفراد والجماعات الذين يجتهدون لزرع الفوضى ويهددون بذلك تماسك المجتمع واستقراره. يقول إريك فايل:

يعتبر القانون أن الفرد عنيف أو، بقول أدق، إنه يحمل في داخله احتمالاتِ العنف التي يمكن لها أن تصير حقيقية في أيِّ وقت كان. هذه الرؤية للقانون لا تعود إلى النوايا السيئة للمشرعين. إن نوايا الناس السيئة هي التي جعلت القانون ضروريًّا. [...] هذه الحقيقة البديهية لا يمكن إنكارها عبر رسم حياة مثالية تعود إلى ما قبل التاريخ أو إلى مستقبل يلي نهاية التاريخ لا أنظمة فيه ولا قوانين.[15]

كذلك فإن العصيان المدني لا يمكن له أن يقوم على تقويم سلبي للقانون في حدِّ ذاته؛ بل إن القانون، على العكس، يجب أن يُقوَّم تقويمًا إيجابيًّا بوصفه وسيلةً تجعل المجتمع قادرًا على تحقيق انتظامه وتماسُكه وأمْنه: هذا ما عبَّر عنه مارتن لوثر كنغ حين قال:

أعتقد أنه حين ينتهك الفرد قانونًا يراه غير عادل وفق ضميره، وحين يقبل بأن يُزجَّ في السجن برضا كلِّي لكي ينبِّه ضمير الجماعة إلى هذا الظلم، فهو يعبِّر في الواقع عن عميق الاحترام للقانون.[16]

بالطبع، قد يكون المجتمع الأمثل مجتمعًا تضمن المساهمةُ الإرادية والحرة لكلِّ مواطن نظامَه وعدالتَه، دون أن تكون هناك حاجة للجوء إلى الضغوط والواجبات التي يقتضيها القانون[17]. لكن رغبتنا في مجرد الحقد على القانون لأنه قانون تعني تجاهلاً للواقع لنبقى أسرى أحلامنا. بيد أنه يجب ألا نحلم بالمثال فحسب، بل وأن نحقِّقه، ليس فقط ضمن جماعاتنا الخاصة، بل داخل المجتمع ككل.

من هنا فإنه لمن العبث الادعاء بأننا "فوق القانون"، لأن القانون يؤدي وظيفة اجتماعية لا يمكن لنا تجاهُلها: هذه الوظيفة تقوم على إحلال النظام وتحقيق عدالة أفضل؛ وهاتان المهمتان لا يمكن فصل الواحدة منهما عن الأخرى. تتمثل وظيفة القانون في تنظيم العلاقات بين الأفراد، بحيث لا يُترَك المجالُ للتعسف والعنف لأن يتحركا على هواهما. ثم إن وظيفة القانون هي في إرغام الناس على التصرف بعقلانية، بحيث تصبح الحياة في المجتمع من دونها غير ممكنة. ليس صحيحًا اعتبار القيود التي يفرضها القانون عوائق في وجه الحرية، وذلك لأنها تشكل أيضًا ضمانات للحرية. المعارضة، سواء كانت برلمانية أو ثورية، يطيب لها أن تنتقد الوسائل التي يستخدمها الحكمُ للإبقاء على النظام. لكن حين تصل المعارضة إلى السلطة ستجد نفسها، بدورها، في مواجهة مشكلة الحفاظ على النظام من جديد. وإذا كانت الأدوار قد انقلبت فإن السيناريو يبقى هو ذاته.

إن على كلِّ مجتمع يتطلع إلى ضمان الحرية والعدالة المثلى لأفراده أن يطالب بحق، لا بل بواجب التنظيم، حتى تبقى هذه الحرية وهذه العدالة في مأمن من أذى أعدائها.

إن هدف العصيان المدني لا يقوم على إلغاء القوانين، بل على تطويرها – إعادة إصلاحها – بحيث تستطيع معها أن تكون منسجمةً أكثر مع متطلبات العدالة والحرية. يؤكد غاندي:

العصيان المدني هو التأكيد على حقٍّ يجب أن يعطيه القانونُ لكنه يرفض إعطاءه.[18]

هنا أيضًا يمكن لنا الالتقاء مع إريك فايل حين يكتب قائلاً: إن مَن يبدو مجرمًا في نظر القانون الوضعي يمكن أن يكون من وجهة نظر أخرى بطلاً أو قديسًا. لكنه لن يكون لا هذا ولا ذاك ما لم يواجه الصراعَ مع القانون. لذا فإن عصيانه سيكون، بوجه أخص، خاليًا من أيِّ معنى في نظر المجتمع أو الجماعة ما لم يهدف إلى إلغاء القانون وسنِّ قانون أفضل، أي قانون في نهاية المطاف.[19]

من جهة أخرى، قد لا يكون الهدف الذي يطمح إليه العمل اللاعنفي إلغاء قانون ما، بل تطبيق قانون معترَف به أصلاً من حيث المبدأ، لكنه بقي دون تطبيق. لقد استند دانيلو دولتشي في العام 1956 إلى نصِّ دستور الجمهورية الإيطالية ذاته عندما حاول محاربةَ البؤس المنتشر في صقلية. تنص المادة الرابعة من هذا الدستور على أن "الجمهورية تعترف بحقِّ كل مواطن في العمل وتكفل له الشروط الضرورية لممارسة هذا الحق فعليًّا". لكن هذه المادة بقيت دون تطبيق على الكثيرين من سكان صقلية الذين كانت المافيا تستغلهم وكانوا مرغَمين على البطالة بسبب وضع اقتصاديٍّ يائس، فيما بقيت الحكومةُ الإيطالية سلبيةً تجاه هذا الوضع. لذلك جاهد دولتشي، من خلال عدة أعمال لاعنفية مباشرة، حتى يكون هذا الحق، الذي يعترف به القانون من حيث المبدأ، مطبقًا أيضًا على الصعيد العملي. وهناك نتائج ملموسة قد تحققت بفضل عمل دانيلو دولتشي. ومن هذا المنطلق بالذات، طالب منشقو دول الكتلة الشرقية رؤساء بلدانهم بأن يحترموا الدستور الذي كتبوه بأيديهم والشرائع التي أعلنوها والمعاهدات الدولية التي وقَّعوها بأنفسهم، لأن هذه النصوص القانونية كلها تضمن حقوق المواطن التي يطالب بها المنشقون تحديدًا. إذا كنا منشقين، كما قالوا، "فهذا لأننا نرفض الخضوع لأوامر الحزب، وليس لأننا نخالف قوانين الدولة".

فلاديمر بوكوفسكي، خلال حديثه مع صديقه ألكسندر فوليني، يتناول في إسهاب وجهة النظر هذه في كتابه وتستعيد الريح مداورها...:

نحن ندين هذا النظام لأنه قائم على التعسف وإنكار الحق، ولأنه يحاول أن يفرض بالقوة إيديولوجيته البلهاء، مُرغِمًا الجميع على الكذب والتظاهر بالخبث. [...] تعالوا، كمواطنين شرفاء في هذا البلد، نتمعن في القوانين بالطريقة التي نفهمها، أي كما نصَّ عليها الدستور. لسنا مُلزَمين بالخضوع لأيِّ شيء آخر سوى القانون. فلندافع عن القانون ضد الانتهاكات التي ترتكبها السلطة. وفيما يخصنا، فنحن إلى جانب القانون؛ أما السلطات فهي ضده.[20]

لكن الأنظمة التوتاليتارية ليست الأنظمة الوحيدة التي تحتال على النصوص القانونية لتفرض سياسةَ الأمر الواقع على المواطنين. ففي المجتمعات التي تدعي اللبرالية كذلك يمكن للقانون أن يصبح في يد المواطن سلاحًا يفرض بواسطته احترامَ حقوقه هو بالذات.

إذا كان العصيان الإجرامي يشكل فعلاً تهديدًا للديموقراطية ويقود المجتمع إلى الفوضى، فإن العصيان المدني، من جهته، يصبح الضمانة لترسيخ الديموقراطية الحق. إذا كان يُفترَض في الحكم أن يسهر على حماية المجتمع من تجاوزات المواطنين، فإنه يتوقع من المواطنين أيضًا أن يسهروا على حماية المجتمع من تجاوزات الحكم. لكننا لا يمكن لنا أن نطالب القانون بالاعتراف بالحق في عصيان القانون دون أن نقع في تناقض. إن هذا الحق يُصاغ انطلاقًا من متطلبات الأخلاق، لأن للأخلاق قوانين لا يقر بها القانون.

كيف يجب أن يكون موقف ذاك الذي يعصى قانونًا ظالمًا حين يواجِه العقاب الذي تفرضه عليه المحاكم؟ كان لغاندي رأي ثابت في هذا الخصوص: كان يعتبر أنه يُفترَض فيمن أوصلَه الأمرُ إلى حدِّ عصيان أحد القوانين أن يتقبل الخضوع للعقوبات الواجبة عليه لأن تقبُّل هذه العقوبات، بحسب رأيه، هو البرهان على أن العصيان كان مدنيًّا وليس إجراميًّا:

المجرم ينتهك القوانين خُلسة ويسعى لأن يفلت من العقاب. أما الذي يقاوم مدنيًّا فهو يعمل بشكل مختلف تمامًا: فهو يظهر دومًا بمظهر المحترِم لقوانين الدولة التي ينتمي إليها، لا خوفًا من العقاب، بل لاعتباره أن هذه القوانين ضرورية لخير المجتمع. حين يصير القانون، في بعض الظروف النادرة، ظالمًا إلى درجة يصير معها الخضوعُ له انتهاكًا للكرامة والشرف، عند ذاك يستطيع المقاوم علنيًّا ومدنيًّا أن يخالف القانون، متحملاً في هدوء العقاب الذي تستدعيه المخالفة.[21]

حين حوكم غاندي في 18 آذار سنة 1922 على عصيانه قوانين الإمبراطورية البريطانية وعلى دعوته مواطنيه إلى الإقتداء به، أخذ يذِّكر بهذه المبادئ في البيان الذي تلاه أمام المحكمة:

اللاعنف يقضي بأن نخضع إراديًّا للعقاب الواجب علينا لكي لا ننحاز إلى الشر. إني هنا مستعد لأن أخضع، بقلب فَرِح، للعقاب الأشد صرامة الذي يُنزِله القانونُ بي وكأني تعمدتُ ارتكاب جريمة. وأنا أعتبر هذا الخضوع الواجبَ الأول للمواطن. أيها القاضي، ليس لديك خيار: إذا كنتَ تعتبر أن القانون الذي أُوكِل إليك تطبيقُه غير صالح وأنني بريء حقًّا، فيجب عندئذٍ أن تستقيل من منصبك وتتوقف، بالتالي، عن التعامل مع الشر. أما إذا كنت تعتقد أن النظام والقانون اللذين تطبِّقهما هما في صالح الشعب وأن تحرُّكي، بالتالي، ضارٌّ بالرأي العام، فإن من الواجب عندئذٍ أن تُنزِل بي العقاب الأشد صرامة.[22]

لكن فكر غاندي في هذا الخصوص يبدو لنا متصلبًا للغاية؛ إذ لا يمكن إضفاء طابع المبدأ الأخلاقي المطلق على الخضوع للعقوبات التي تفرضها القوانين – مع العلم بأن البيان الذي تلاه غاندي أمام قُضاته رائع دون شك، ولكنه سيكون في غير موضعه لو أنه تُلِيَ مثلاً أمام محاكم المجتمعات التوتاليتارية. فالمنشقون السياسيون الذين حوكموا أمام القضاء لم يكن في مقدورهم في الواقع أن يعلنوا أنهم "مستعدون للخضوع، بقلب فرح، للعقاب الأشد صرامة [...]"! فمن المؤكد أنه ليس منافيًا للأخلاق أن يرفض المرءُ تلقِّي العقاب الذي يفرضه القانون حيال عمل يتعلق بالعصيان المدني: إذ في حال كان القانون ظالمًا فإن العقوبات التي يفرضها ستكون ظالمةً أيضًا؛ وبالتالي، فإن الذي يعصى قانونًا ظالمًا يكون مؤهلاً لأن يعصى أيضًا العقوبات التي يرغب المجتمع في فَرْضِها عليه.

لا يمكن لنا، في هذا الخصوص، أن نحدد قاعدةً عامة. ما ينبغي فعله هو التفتيش عن سلوك متلائم مع الوضع الذي نوجد فيه. هنا أيضًا، المعايير التي يجب الالتزام بها ليست أخلاقية، بل سياسية؛ إذا إن الأمر يتعلق باختيار الطريقة التي تعطي العمل فعاليته الكبرى. من الأفضل، ربما، عدم التهرب من العقوبات التي يفرضها القانون، فنسمح لعملنا أن يكون ذا تأثير أكبر على الصعيد الشعبي. فمن خلال المثول الإرادي للمناضل أمام المحكمة، ومن خلال موافقته على تحمُّل العقوبات التي تفرضها، وخصوصًا عقوبة السجن، تتاح له عندئذٍ فرصةٌ أفضل لأن يكشف أمام الملأ التبعاتِ الحقيقيةَ المترتبةَ عن الصراع الذي يواجه فيه السلطاتِ القائمة. إن الظلم الذي لَحِقَ بالمناضل من جراء المحاكمة يمكن له أن يفضح ظلم القانون الذي خالَفَه.

عندما كان مارتن لوثر كنغ يخطط لتعطيل العمل العادي لمؤسسات المجتمع الأمريكي، من خلال حملات العصيان المدني، أوضح قائلاً:

هذه المقاطعة يجب ألا تكون سرِّية أو في الخفاء. ليس ضروريًّا أن نُلبِسَها ثوبَ حرب المغاوير الرومانسي، بل يجب أن تكون علنيةً وأن تقوم بها جماهير كثيرة، دون أيِّ لجوء إلى العنف. وإذا كانت السلطات تريد إفشالها وإغراق السجون بنا فإن معناها بذلك يصبح أوضح.[23]

من المؤكد أن الأيام التي أمضاها كل من غاندي وكنغ وتشافيز في السجن كانت مفيدة لفعالية تحرُّكاتهم. لكن يبدو أن هناك ظروفًا يفضَّل إبانها الإفلات من العقاب من أجل زيادة حجم التحدي الذي يوجَّه إلى السلطات ومن أجل إظهار الطابع اللاشرعي للعقاب المعلَن عنه. كما يمكن أيضًا التخطيط للدخول في مرحلة من التخفِّي المؤقت، ثم اختيار تاريخ الاعتقال بأنفسنا، جاعلين منه مناسبةً للظهور بمظهر يكاد أن يكون احتفاليًّا. المهم هو أن نسعى دومًا للاحتفاظ بزمام المبادرة.

حين يصير القمع عنيفًا جدًّا، يصبح من الضروري أن يتهرب المسئولون والمناضلون من العقوبات المفروضة عليهم برفضهم الخضوعَ لسلطان الأمر الواقع، وذلك من أجل تماسك حركة المقاومة والإبقاء على زخمها واستمرارها. من طبيعة الأمور أن يكون الجانب الأكبر من نشاطات حركة الانشقاق سِريًّا. إن الأعمال العلنية التي تؤدي حتمًا إلى الاعتقالات ليست إلا الجانب المرئي من جبل الجليد.

إن عاصي القانون يعرف جيدًا أن المجتمع لن يعترف له بهذا الحق. لكن ما يتوخاه من عصيانه هو إبراز الأسباب التي تجعل القانون سيئًا والتي توجِب، بالتالي، تغييرَه. ثم إن هؤلاء الذين تقوم وظيفتُهم على فرض احترام القانون، سواء انتموا إلى السلطة التنفيذية أم إلى السلطة التشريعية، يفترَض فيهم ألا يحتموا وراء الحجة القائلة بأن طاعة القانون واجبة لأن القانون هو القانون. إنه لأمر سخيف قولهم إنهم لا يريدون معرفة الأسباب التي أدتْ إلى عمل عصياني، لأنهم لو فهموا وظيفتهم كما يجب لعرفوا عندئذٍ أن من واجبهم ليس فقط تطبيق القانون، بل القبول أيضًا بأن يكون القانونُ قابلاً للنقاش.

يكون القانون عادلاً، وبالتالي مبرَّرًا، بمقدار ما يهدف حقًّا للدفاع عن مصالح المعدَمين والمستضعَفين ضد مطامع الأغنياء والأقوياء. ولكن الأغنياء والأقوياء هم الذين يسنُّون الشرائع، وهم أيضًا الذين يحرِّفون القانونَ ويستخدمونه لحماية امتيازاتهم من مطالب الفقراء. في هذه الحالة بالذات لا يعود القانون جديرًا بالطاعة، حتى لو أقرَّه مجلسٌ منتخَب عن طريق التصويت العام. بالطبع، لا يجوز لنا احتقارُ القانون لأن سنَّه يشكِّل تقدمًا مهمًّا في تاريخ المجتمعات. إن كل تغيير اجتماعي جذريٍّ تقوم به حملةٌ لاعنفية يجب أن يصادَق عليه من خلال التصويت العام الذي يبقى وسيلةَ التعبير الفضلى عن رأي الأكثرية. ولكن تبقى لهذا التصويت حدودُه ونقائصُه.

على صعيد آخر، إذا كان الاقتراع العام يسمح للغالبية بأن تختار الحكومة التي تريدها، فإنه لا يعطيها حقَّ المشاركة في قرارات هذه الحكومة. فالديموقراطيات هي، قبل كلِّ شيء، ديموقراطيات تمثيلية وليست ديموقراطيات مشارَكة. لذا ترانا نبالغ دومًا في تصوير الدور الحقيقي الذي يلعبه المواطن حين يدلي بصوته في صندوق الاقتراع. صحيح أن المواطن يسمح لممثليه بالوصول إلى السلطة، ولكنه لا يملك، في المقابل، الوسائل الحقيقية لمراقبة قراراتهم وضبطها. فالأمر كما لو أنه يوقِّع شيكًا على بياض وأنه سيُرغَم على تسديد الحساب، طوعًا أو كُرهًا. ذلك أن المواطن، من خلال التصويت، لا يمارس سلطته، بل يوكلها. وقد أكد ميشيل دوبريه بعبارات واضحة بأن هناك مفهومًا معينًا للديموقراطية يقوم بالضبط على عدم مشاركة المواطنين وتخلِّيهم عن تحمُّل مسؤولياتهم:

إن ميزة الفرد هي أن يعيش قبل كلِّ شيء حياته اليومية: فهمومه وهموم عائلته تستغرقه. إن عدد المواطنين الذين يتمكنون من متابعة الاهتمامات العامة ويرغبون في المشاركة فيها محدود – وهذا شيء جيد؛ إذ إن المدينة أو الأمَّة التي يناقش فيها المواطنون أمورَهم السياسية كلَّ يوم تغدو قريبة من الدمار. الديموقراطية ليست في إفساح المجال باستمرار أمام الأهواء والمشاعر الشعبية لمناقشة مسائل الدولة. المواطن العادي الديموقراطي حقًّا يحكم في صمت على نظام بلاده. وحين يستشار في تواريخ محددة من أجل انتخاب نائب، مثلاً، يستطيع عند ذاك التعبير عن موافقته أو عدمها. وبعدئذٍ يعود عودة سليمة وعادية إلى اهتماماته الشخصية.[24]

وقد يحلو للكثيرين، أمام تلكؤ معارضةٍ ذات طابع برلماني وقصورها، اللجوء إلى الوسائل العنفية لإظهار حقوقهم. لكن الخيار ليس مطروحًا بين العمل الشرعي وبين العمل العنفي المباشر. إذ لا صندوق الاقتراع ولا التدمير في إمكانهما أن يسمحا للمواطن في نهاية الأمر بأن يكون مسؤولاً حقًّا وبأن يتمكن من إسماع صوته. فبعيدًا عن الطرق المسدودة التي تواجهنا فيما لو نفَّذنا تنفيذًا دقيقًا الشروطَ التي تفرضها القواعدُ الشكلية للديموقراطية كلُّها، وبعيدًا عن التناقضات التي يوقعنا فيها العملُ العنفي، فإن العمل اللاعنفي المباشر، كالمقاطعة والعصيان المدني، يسمح لنا بمواجهة تجاوزات السلطة القائمة وبمحاربة الظلم فعليًّا وتحقيق التغييرات الضرورية:

حين يفشل اللجوءُ إلى السلطات الديموقراطية في مسألة محددة، أو في مكان معين، يمكن لتظاهرات المعارضة عندئذٍ أو لتنظيم حملة عصيان مدني "خارج إطار القانون" أن تسمح للمؤسسات الديموقراطية بأن تستعيد وظائفَها الحقيقية.[25]

عندما نشارك جميعًا في الظلم، لا يجوز أن ينتظر كلُّ واحد منَّا حتى تعي الأكثريةُ هذا الظلم لكي يقلع عن المشاركة فيه ولكي يبادر حينذاك إلى فعل ما في وسعه لإنهاء الظلم. لا يكفي فقط أن نعمل لكي تغير السلطةُ سياستَها، بل من الضروري إثبات قوتنا بالذات كمواطنين أحرار ومسئولين، فنرفض، منذ الآن ومن خلال عملية عصيان مدني، كلَّ تعاون شخصيٍّ مع الظلم. كتب غاندي:

العصيان المدني هو الحق الطبيعي لكلِّ مواطن: إذا تخلَّى عن هذا الحق فهو يكف عن كونه إنسانًا. [...] وإذا حاولنا الوقوف ضد العصيان المدني فهذا يعني أننا نريد اعتقال الضمير.[26]

هناك العديد من اللبراليين الذين يُبدون استعدادهم لفضح الظلم ومحاربته بالوسائل الشرعية، لكنهم لن يقتنعوا مع ذلك بتجاوز العتبة التي تضعهم في خانة اللاشرعية. والسبب هو أن النظام في نظرهم كلٌّ لا يتجزأ، وكل عصيان مدنيٍّ لا يمكن أن يكون إلا عامل فوضى. وقد عبَّر مارتن لوثر كنغ، في رسالته الشهيرة التي كتبها في سجن برمنغهام، عن الخيبة التي كان يشعر بها حيال موقف الإنسان اللبرالي الذي يحب العدالة ولكنه يؤثر عليها النظام:

إن التفهم السطحي للناس ذوي النوايا الطيبة يبعث على الخيبة أكثر مما يبعثه عدمُ تفهم الأعداء الكامل؛ والاقتناع الفاتر يبعث على الحيرة أكثر من الرفض المطلق.[27]

إن الإنسان اللبرالي يرغب في الواقع بأن ينال المضطهَدون حقوقهم، لكنه يتسلح دومًا بالصبر والتفاؤل اللذين يدفعانه إلى التريث والثقة بالسلطات القائمة. لذا فهو يرى وسائل العمل المباشر (أعمال العصيان المدني خاصةً) أعمالاً متطرفة وغير عقلانية.

إن أعمال العصيان المدني الفردية لا يمكن لها أن تدعي امتلاك تأثير سياسيٍّ كبير يغيِّر مجرى الحدث تغييرًا كاملاً؛ لكنها تجد مع ذلك تبريرها ودلالتها في أنها التعبير السياسي المخلص عن متطلبات العدالة والحقيقة. الفلاح النمساوي فرانتس جاغر شتاتر، الذي حُكِمَ عليه بالموت وأُعدِمَ سنة 1943 بسبب رفضه الخدمة في الجيش الهتلري، لم يستطع بعمله هذا أن يمنع الجيش من متابعة مهماته الإجرامية في أوروبا، فبقي بذلك "شاهدًا وحيدًا"[28]؛ ولكن يتفق الجميع اليوم على أن موقفه كان الموقف الوحيد اللائق بإنسان مسؤول. ثم إننا، لو حاولنا أن نتساءل بماذا استطاع رفضُه أن يخدم الإنسانية، لوجب علينا حينئذٍ أن نتساءل أيضًا بماذا استطاع رضوخُ الآخرين أن يخدمها! أحداث أوشفيتس وأورادور وحدها قادرة على إعطاء جواب صحيح عن هذا السؤال.

من جهة أخرى، يمكن لأعمال عصيان مدنيٍّ فردية أن تلعب دورًا هامًّا، ولاسيما في البلدان حيث بدأت الديموقراطية تتحقق تحققًا فعليًّا، وحيث الحق الإعلامي معترَف به على نطاق واسع ومعمول به باحترام. فمن خلال الإعلام المعطى لها، تشكل هذه الأعمال مقاضاةً للمسئولين عن الظلم ولأولئك الذين يدعمونه بواسطة صمتهم وتعاونهم.

كما يمكن لهذه الأعمال أن تشكل عنصرًا لا يستهان به في تعبئة الرأي العام وتحريكه حيال ظلم معين، فتدفع هؤلاء الذين يشعرون بأنهم معنيون مباشرة بأطروحات العمل اللاعنفي والوسائل التي يستخدمها إلى التوحد والتأهب لنشرها على الناس وإعلان دعمهم العلني لها. وفي حال أُجرِيَتْ محاكماتٌ وفُرِضَتْ عقوبات، يمكن إثارة حدث صحفيٍّ لإعلام الجميع عن أسباب العصيان وأهدافه. انطلاقًا من هنا، يمكن لنا أن نتوقع من أناس آخرين أن يتابعوا المسيرة ذاتها ويعطوا العمل زخمًا أكبر. إن التأثير السياسي الذي ينتج عن ذلك لا يمكن أن يُستهان به.

*** *** ***

الترجمة عن الفرنسية: ماري طوق