الأمومة تزغرد لمشهد دماء بناتها [ القتل بدافع الشرف .. مبدأ بلا شرف

طباعة

فريال أبو فخر-الأزمنة

لم تكن زغاريد فرح لنجاح أو لعرس أو لاستقبال غائب بل كانت زغاريد القتل والدم صدرت من أم القتيلة معلنة غسل العار والشرف، وأي شرف؟!.. وما هو مفهوم الشرف لدى هؤلاء؟!.. وبأي قواميس قرؤوا عن مفهومهم هذا؟!.. وهل هذه الوحشية التي مارسوها لها علاقة بالقيم أو الشرف.

كيف كانوا يفكرون وهم يوجهون طعناتهم الواحدة تلو الأخرى إلى ابنتهم ويستقوون على جسد مدمّى أنهكه التعب والمسؤولية والخوف من المجهول؟!.. كيف استطاعت الأمومة أن تزغرد لمشهد الدماء؟!..

هل سمعنا يوماً أن أماً أو أختاً قتلت ابنها أو أخيها بناء على أقاويل مسّت سمعته وشرفه. أوليس للرجال شرف؟!.

جالسة. أسمع من هنا وهناك عبارات وجملاً متفرقة، وليست مترابطة، ولا أنفك أركز في جملة حتى تدق مسمعي جملة تفوقها أهمية وخطورة. (لقد ماتت... نعم لقد قتلوها بالسكاكين.. لقد زغردت أمها.. الخ) ما القصة..؟ لست أدري، كل ما أعرفه أن هذه الحكاية كانت حديث الجميع يتناقلونها بالأخبار الصحيحة وغير الصحيحة. وصلتُ البيت وعرفتُ القصة وهي: (حكاية أم لثلاث بنات صغيرات تركها زوجها وسافر بعيداً تاركاً بعهدتها مسؤولية البيت وتربية البنات الصغيرات وتأمين المصروف اليومي لهنَّ، فذهبت إلى أحد أقاربها الموجود في دمشق - وبمعرفة أحد ذويها - وطلبت منه المساعدة بالبحث عن عمل تقتات منه هي وصغيراتها.

استغرق غيابها عن بيت أهلها قرابة عشرة الأيام، خلالها سرت أقاويل وشائعات تمس سمعتها وأخلاقها، ما دفع أبوها وإخوتها الستة للحقد عليها واستدراجها بطريقة ماكرة وخبيثة، لتنتهي الضحية مضرجة بدمها جراء طعنات السكاكين والخناجر - حيث فارقت الحياة - فَعَلَتْ الزغاريد معلنة غسل العار.

قدر أعمى

على الرغم من مرور فترة من الزمن على هذه الجريمة إلا أنها ما زالت تهزني وتؤرقني من الصميم، ومازالت تستحوذ على اهتمام كل شخص يملك ولو بعضاً من العواطف الإنسانية تجاه أي إنسان آخر، وخصوصاً أن هذه الفتاة تعرضت للظلم عندما أجبرها أهلها على الزواج من شخص لا تريده، وبالنهاية لم تستطع مواجهة عقلياتهم المتحجرة والمتخلفة التي ترى في زواج الفتاة خلاصاً من عار قد يلحق بهم، وكان ثمرة هذا الزواج ثلاث بنات تركهم والدهم لقدرهم الأعمى وسافر بعيداً وتزوج هناك.

خوف من المجهول

ماذا أفعل..ما هي نهايتي.. من أين أطعم بناتي.. ما هو السبيل للحصول على الحدود الدنيا من حاجاتي ومتطلباتي...؟ هذه التساؤلات كانت تلحُّ على تفكيرها باستمرار وخصوصاً بعد أن ذاقت الأمرّين، ظلم أهلها وقسوتهم وعدم تعرف أهل زوجها عليها إلا بحدود التدخل بشؤونها.

هنا قررت الاعتماد على نفسها ووجدت أن الطريق الأمثل لأزمتها هو البحث عن عمل تعتاش منه بعد أن فقدت الأمل بوقوف أحد بجانبها، فذهبت إلى دمشق، وطلبت من أحد أقاربها وبمعرفة أخيها البحث عن عمل شريف يناسبها تستطيع من خلاله أن تكمل مشوار دربها الطويل. واستغرق غيابها عن بيت أهلها ما يقارب عشرة الأيام.

شهامة ومروءة

لم تكن خلال هذه الأيام في إحدى كازينوهات دمشق تبتاع الهوى وتبيعه، ولا في أي دار للدعارة، بل كانت في بيت قريب لها جالسة بين زوجته وأولاده وخصوصاً أنها شابة في العشرين من عمرها حيث اعتبرها هذا القريب مثل بناته، وبدافع الشهامة والمروءة، ولأنها طلبت منه المساعدة لم يتخلََّ عنها وأمن لها ما تريد.

سرت أقاويل كثيرة مفادها أن هذه الأم هربت مع أحدهم، وبأنها دنّست شرف العائلة عن طريق ارتكابها للأعمال اللاأخلاقية وبدأ الناس يبثون سمومهم وحقدهم عن طريق نقل الكلام ودسه معتمدين على حقائق واقعية ولكنها محرّفة تجعل السامع يصدقها.. كيف لا ومجتمعنا ملئ بهؤلاء المحترفين الماهرين بحبك قصص الخيال والتسلية بأعراض الناس وسمعتهم..!! ولكنني أتوقع بأنهم لم يعرفوا بأن خيالهم المريض وقصصهم هذه سوف تؤدي بهذه الضحية البريئة إلى هذا المصير الوخيم.

استدراج ماكر

بين رغبتها في تأمين قوت يومها، وتخلف أهلها وعصبيتهم ورغبتهم في عودتها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وخوفها من العودة المكسورة وقعت الأم ضحية هذا التناحر، فالإخوة والأب تعهدوا أمام أقاربهم ووجهاء القوم بأنهم لن يمسّوا شعرة واحدة منها إن عادت وهمّهم الوحيد هو الاطمئنان عليها، وأمام هذا التعهد عادت الضحية آمنة مطمئنة لتجد ما لم يكن بالحسبان.

مفارقة غريبة

يقال أن (الخال لولا الشك والد) ولكن هذا المثل وللأسف لم ينطبق على الضحية، فخالها كان هو المحرض الأقوى حيث زرع الدسائس والضغينة في قلوب ورؤوس إخوتها وكان له الدور الأكبر في تأليب الأحقاد عليها، مع العلم أن أخته أي (أم الضحية) تزوجت عن طريق (الخطيفة).

جريمة بشعة

إنها الزغاريد.... نعم هناك صوت زغاريد من بيت الضحية، هكذا أيقن الجيران، لم تكن زغاريد فرح لنجاح أو لعرس أو لاستقبال غائب، بل كانت زغاريد القتل والدم صدرت من أم القتيلة معلنة غسل العار والشرف.. وأي شرف.. وما هو مفهوم الشرف لدى هؤلاء.. وبأي قواميس قرؤوا عن مفهومهم هذا.. وهل هذه الوحشية التي مارسوها لها علاقة بالقيم أو بالشرف.. كيف كانوا يفكرون وهم يوجهون طعناتهم الواحدة تلو الأخرى إلى ابنتهم ويستقوون على جسد مدمى أنهكه التعب والمسؤولية والخوف من المجهول والبحث عن لقمة العيش، كيف استطاعت الأمومة أن تزغرد لمشهد الدماء...؟!!.

أين أنتم أيها المثقفون..؟!!

بعد هذه الحادثة صار مضحكاً مشهد المثقفين والمتثاقفين، والشعراء والمحاضرين، والذين لا تخلو جلساتهم ومحاضراتهم من مناقشة أمور الفن والثقافة والسياسة والقصائد الشعرية والمحاضرات النقدية، ويستهلكون وقتهم بالتنظير، ناسين ومتناسين بأن هناك مفهوماً اسمه (ثقافة شعبية) يجب أن توجه من قبلهم إلى الإنسان العادي المسكين الذي هو بالنهاية ضحية تخلفه اللعين،... أوليس الجاهل ضحية جهله منذ أبد الآبدين...

نعم وللأسف لقد كان دور المثقف عندنا سلبياً، ولم يقم بأي دور إيجابي بحجم هذه الجريمة باستثناء مناقشات واحتجاجات بين مجموعات هنا وأخرى هناك أدانت هذه الجريمة البشعة.

ولكن هل هذا يكفي..؟!. لا أعتقد، فمسؤولية المثقف إزاء أي خلل في مجتمعه هو النزول إلى الشارع (بين الناس) وتنظيم الاعتصامات والمظاهرات الاحتجاجية لإيصال صوته إلى أكبر عدد ممكن كونه عنصراً فاعلاً يؤثر ويتأثر بالأحداث الجارية، ولا يكفي أن يكون مؤمناً بأفكار وقيم ومبادئ حضارية يحمله غيره ويناقشه بها، بل يجب زرعها وبثها بين الناس، لعله يحرك ساكناً ويغير ولو القليل من العقلية السائدة التي تعتمد على العشائرية والعصبية المتخلفة.

قانون ولكن

إن إزهاق روح الإنسان محرّم دينياً، ومعاقب عليه جزائياً، ولكن هناك نوع من الجرائم التي يرخي القانون على فاعلها بحماية خاصة، وقد أفرد لها نصوص قانونية متعلقة بها، وهذه النصوص قد تعفي الفاعل من أي عقاب أو تكافئه – وقد أعجبني هذا التعبير لأحد المحامين عندما قال: تكافئه بدل أن تعاقبه بعقوبة مخففة قد لا تتجاوز السنتين، ومن هذه النصوص. " يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد على ألاّ تقل العقوبة عن الحبس مدة سنتين".

تناقض في القانون

ولكن من خلال الإحصاءات وظروف ووقائع هذه الدعوة ودعاوى كثيرة مماثلة والثابتة في الملفات، والتي صدرت بها أحكام، نجد وللأسف أن من يقوم بهذا النوع من الجرائم يرتكبها لمجرد سماعه لأقاويل وأحاديث من حوله، وتأثره بآراء محيطه حتى لو لم تكن صحيحة.

ومع هذا يميل بعض القضاة المتأثرين بعاداتنا وتقاليدنا – كونهم أبناء مجتمعهم - إلى تطبيق نص القانون على كل جريمة ترتكب من هذا النوع، على الرغم من عدم انطباق نص هذه المادة على ظروفها ووقائعها، وخاصة الجرائم التي ترتكب لمجرد السمع - القيل والقال - حيث يخطط الفاعل لجريمته بكل هدوء وروية، ويستحضر الضحية إلى المكان الذي أعده لارتكاب جريمته، وينفذها بكل هدوء أعصاب – ما حدث فعلا في هذه الجريمة - وهذا ما يجعل جريمته مستجمعة كافة أركان وشروط القتل العمد، ومع ذلك يستفيد الفاعل بطريقة ما من نص القانون.

وبعد

إذا كان هناك من يعتقد بأن القتل هو الحل الأمثل لمعالجة هذه الظواهر المرفوضة اجتماعياً - مع العلم أن هناك الكثير من هذه الحوادث والجرائم التي ترتكب تكون الفتاة بمعظمها بريئة ولكن يرتكبها الأهل بتأثير المجتمع والقيل والقال والذي غالباً ما يكون ظالماً بأحكامه - فلماذا نسمع بين الفينة والأخرى عن حادثة وقعت هنا وأخرى وقعت هناك، وتكاد لاتخلو منطقة من مناطقنا من هذه الظاهرة الخطيرة والتي تعد شكلاً من أشكال العنف ضد المرأة، فهل سمعنا يوماً أن هناك أماً أو أختاً قتلت ابنها أو أخيها بناء على أقاويل مست سمعته وشرفه، أوليس للرجال شرف..؟!!.

هذه واحدة من الجرائم التي حدثت منذ فترة في منطقة من نواحي محافظتي (السويداء) وأرجو أن تكون الأخيرة، ولكن قد لا تكون، ما دام القانون يقف إلى جانب هؤلاء المحكومين بالجهل والتعصب والتخلف، ويبيح لهم الأحكام المخففة.