مسألة الأقليـات

أنتبه, فتح في نافذة جديدة. صيغة PDFطباعةأرسل لصديقك

مسألة الأقليـات

جاد الكريم الجباعي

على سبيل التمهيد

مسألة الأقليات· وحقوقها من أكثر المسائل حساسية وخطورة، لذلك تحتاج مقاربتها إلى مزيد من الدقة والروية والضبط المنهجي، ولا سيما اليوم، في ظل العولمة الاقتصادية الرأسمالية المتوحشة ودكتاتورية السوق التي تنتهك حقوق أربعة أخماس البشرية وتقذف بها إلى هوامش الحياة، تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات. مما يضع الباحث أمام خطرين: خطرالتفريط بحقوق الأقليات، أو تجاهلها، أو التوجس منها؛ بحجة مقاومة سلبيات العولمة ومواجهة تحدياتها، وخطر تبني الليبرالية الجديدة بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان بوجه عام وحقوق الأقليات بوجه خاص. ذلك أن العولمة الجارية والمتسارعة تنطوي على آليتين متعاكستين: آلية دمج الاقتصادات الوطنية والمحلية وتوحيدها في اقتصاد عالمي تسيطر عليه الشركات متعددة الجنسيات وسدنة رأس المال المالي المنفلت من عقاله والاقتصادات المفترسة، وفي مقدمتها الاقتصاد الأمريكي. وتستفيد هذه الآلية من ثورة الإعلام والإعلان وتقدم التقانة وثورة المواصلات والاتصالات والمعلومات، وكلها خاضعة للاحتكارات الكبرى. وآلية تفكيك وتفتيت تستهدف البنى القومية أو الوطنية، السياسية والاجتماعية والثقافية، ولا سيما الدولة الوطنية، في أطراف النظام العالمي، من خلال إحياء الهويات ما قبل الوطنية وما قبل المجتمعية وإنعاشها وجعل روابطها وعلاقاتها الأولية بديلاً من علاقات المواطنة التي هي قوام الدولة الوطنية الحديثة (=الدولة القومية أوالدولة الأمة التي حلت مسألة الأقليات حلاًعلمانياً وديمقراطياً).

ويذهب بعض الباحثين وعلماء الاجتماع المعاصرين إلى تصنيف المجتمعات، من حيث تنوعها الديني والمذهبي والقومي والعرقي واللغوي والثقافي، في ثلاثة نماذج أو ثلاثة أنماط هي: المجتمعات الفسيفسائية غير القابلة للاندماج، والمجتمعات النقية عرقياً أو دينياً أو قومياً..، وهذان حدان أقصيان تقع بينهما المجتمعات القائمة على التنوع والقابلة للاندماج في الوقت ذاته. والباحث يعتقد أن الأقطار العربية، باستثناء لبنان، (ما لم تكتسب أقليته العلمانية وعياً وطنياً / قومياً حديثاً، وأكثريته العروبية وعياً علمانياً)، تنضوي تحت هذا النموذج الثالث. فالمجتمعات العربية تتصف بالتـنوع الديني والمذهبي والقومي واللغوي والثقافي، ولكنها جميعاً قابلة في الوقت ذاته للاندماج. ولعل النموذج اللبناني في تطرفه في هذا المجال هو الذي يقرع ناقوس الخطر، ويفرض ضرورة البحث عن حل جذري، علماني وديمقراطي لهذه المسألة المتفجرة هنا والكامنة هناك. وقد خطت الأقطار العربية، ولا سيما سورية، في طريق الاندماج الوطني والاجتماعي خطوات راسخة. بل إن سورية استعصت على محاولات تقسيمها إلى دويلات، في زمن الاستعمار الكولونيالي المباشر، واستعصت بعد ذلك على محاولات العبث بوحدتها الوطنية؛ لأسباب موضوعية سنأتي على ذكرها. وهذا خلاف ما ذهب ويذهب إليه معظم المستشرقين ومعظم مراكز البحث الغربية؛ إذ يطلق هؤلاء المستشرقون وباحثو هذه المراكز على المجتمعات العربية صفة المجتمعات الفسيفسائية أو مجتمعات الموزاييك، وذلك ليس إشارة إلى تعدد مكونات هذه المجتمعات وتنوعها فحسب، بل إشارة إلى عمق الفروق "الأصلية" بين هذه المكونات، وممانعتها للاندماج الوطني والاجتماعي،وممانعتها، من ثم، للاستقرار الاجتماعي السياسي. ولا تخفى المرامي الأيديولوجية والسياسية الكامنة خلف مثل هذه الصفات إلا على من يظن أن الطابع "الغربي" للمقولات يمنحها مشروعية علمية.

تجاهل الفكر القومي التقليدوي والتقليدوي الجديد مسالة الأقليات، وكان ولا يزال يلقي تبعة الاضطرابات والأزمات التي تولدها على الخارج فقط، متجاهلاً حقيقة أن وجود الأقليات أقدم من الاستعمار والإمبريالية، وأن عوامل انفجارها الداخلية هي التي تستقدم التدخل الخارجي، وتمكنه من استثمارها. وما تجاهل الفكر القومي لهذه المسألة سوى مثال واحد على ازوراره عن الواقع، وعلى غلبة العنصر  الأيديولوجي على العناصر الواقعية والعقلانية في بنيته. فجذور هذه المسألة قديمة في تاريخنا ترجع إلى ما قبل الفتوحات الإسلامية. فالإسلام الذي تقوم رؤيته على ثلاثة أركان مهمة هي التوحيد أوالوحدة والتعدد والكونية أبقى على الديانات والمذاهب التوحيدية، وجعل أتباعها في ذمة المسلمين. وأنتج الانشقاق الإسلامي إثر معركة صفين مذاهب إسلامية تعمقت الفروق فيما بينها حتى طالت بعض مسائل العقيدة ذاتها. ودخلت في الإسلام أقوام شتى تعرب بعضها واحتفظ بعضها الآخر بهويته الإثنية أواللغوية الثقافية. وشأن جميع الإمبراطوريات القديمة ضمت الإمبراطورية العربية الإسلامية مللاً ونحلاً وديانات ومذاهب وقوميات شتى دخلت جميعها، كلياً أو جزئياً، في النسيج الاجتماعي السياسي والثقافي العربي الإسلامي. وتؤكد آليات تشظي الدولة العربية الإسلامية على أساس أقوامي حيناً ومذهبي حيناً آخر، أو عليهما معاً في معظم الأحيان، على عمق هذه المسألة في بنيتها. ومع سيطرة العثمانيين على مقاليد "الخلافة الإسلامية" أقاموا نظاماً مللياً قوامه المركزية العسكرية واللامركزية الإدارية انطلقت منه عملية تسييس مسألة الأقليات التي أخذت تتعمق طرداً مع تعمق الاختراق الرأسمالي ونشوء نظام "الامتيازات" ونظام "حماية الأقليات"، وصولاً إلى الاستعمار الكولونيالي وسياسته القائمة على مبدأ: فرق تسد. ولكن البنى القابلة للتفريق هي وحدها التي يمكن تفريقها.

"إلا أن الاستعمار المشرب، رغم كل شيء، ببعض قيم المجتمع الغربي الذي ينتمي إليه، انخرط في سيرورة تناقضية: ففي الوقت الذي شدد شعور الغربة لدى الأقلّيات غير الإسلامية، حمل معه بعض إنجازات الثورة القومية الديمقراطية البورجوازية. فالدساتير الكولونيالية، التي فرضت حقوق الإنسان (المثلومة، ولا شك، بالهيمنة الاستعمارية) لأول مرة في المجتمعات العربية، رفعت تلك الأقليات إلى مرتبة المواطنية، بل حاول الاستعمار فتح الباب لدمجهم قومياً (مثلاً: نص ملحق لمشروع معاهدة 1936 بين سوريا وفرنسا على إصدار قانون موحد للأحوال الشخصية). بيد أن انطواء الأكثرية الإسلامية، بفعل الاغتصاب الاستعماري أساساً، ناهيك عن استنكارها تغرب الأقليات المسيحية، خلق هوة أو انشقاقاً بين وعي المجتمع المخثر في تقليديته، وبين التوجه القومي الديمقراطي الذي في الدساتير الكولونيالية، الأمر الذي عقد، بل عرقل، سيرورة الحل الديمقراطي الاندماجي لمسألة الأقليات. وهكذا بقي المجتمع العربي حتى بعد الاستقلالات السياسية، معلقاً ًًأو مزنوقاً في منتصف الطريق: استحالة إعادة الأقليات المسيحية إلى وضع أهل الذمة القديم، وفي نفس الوقت قصوره عن تحقيق ثورة قومية ديمقراطية، تفتح لحل مسالة الأقليات حلاً جذرياً وعصرياً وديمقراطياً. إذاً، فانقطاعنا عن الماضي وعجزنا عن السير الواعي المصمم إلى المستقبل حوّل الوضع الطائفي التقليدي، الذي عاشته قروناً المجتمعات العربية ما قبل الكولونيالية، إلى أزمة طائفية، تجسد وتلخص الأزمة العامة للمجتمع العربي"[1][1].

لقد أخذت مسألة الأقليات تطرح نفسها بهذا القدر أو ذاك من الحدة والتفجر حين انتكست المجتمعات العربية إلى ما قبل المرحلة الكولونيالية، في ظل ما سماه ياسين الحافظ الحقبة الشخبوطية، حقبة البداوة النفطية. فطفا الماضي على سطح الحاضر الملقى على هامش العصر.

ثمة في الوطن العربي، كما في معظم دول العالم، تعدد وتنوع واختلاف وتعارض. ثمة جماعات قومية ولغوية وثقافية ومذاهب إسلامية وطرق صوفية وطوائف مسيحية ويهودية ويزيدية، ولكن لا تعدد وتنوع بلا وحدة ولا اختلاف وتعارض بلا تماثل وتشابه. وهذا ما تتجاهله الرؤية الاستشراقية، وتريد لنا أن نجهله، فنشرع في إقامة المتاريس بدلاً من بناء الجسور. فمن دون مقولتي الوحدة والتماثل لا نصل إلى مفهوم الإنسان وحقوق الإنسان، اللهم إلا على الطريقة الانتقائية الغربية عامة والأمريكية خاصة. البشر كلهم مختلفون اختلافات لا نهاية لها، وكلهم متماثلون في الحيثية الإنسانية، بل إن ثمة اختلافاً في الاختلاف. فمن قال إن الأكراد في سورية، مثلاً، غير مختلفين، لا عن العرب فحسب، بل فيما بينهم أيضاً؟ ومن قال إن العرب غير مختلفين عن غيرهم وفيما بينهم أيضاً؟ وهذا مطرد في جميع بني آدم. الاختلاف هو الذي يفترض المساواة، منطقياً وأخلاقياً بالتلازم، فلولا الاختلاف لما كانت هناك حاجة إلى المساواة. الاختلاف يفترض المساواة لأنه يفترض التماثل في الماهية الإنسانية، والاحتياج المتبادل بين أفراد المجتمع، وقيام كل منهم بوظيفة ضرورية للآخرين، وهذا أساس المساواة السياسية أمام القانون، وهو مؤسس على تساوي جميع أنواع العمل البشري في القيمة المطلقة. والعلاقة بين الاختلاف والمساواة هي ذاتها العلاقة بين الكينونة والوجود. والمساواة لا تعني في أي حال من الأحوال إلغاء الفروق، فإلغاء الفروق هو الوقوع في السديمية والاختلاط، والذهاب إلى العدم. إن قضية حقوق الإنسان كلها تتكثَّف في هذه المسألة. وحقوق الأقليات فرع من شجرة حقوق الإنسان.

جميع محمولات الإنسان هي تحديداته الذاتية ليس لأي منها قيمة مطلقة في ذاتها، بل إنها جميعاً تستمد قيمتها من الإنسان ذاته الذي يحملها ويحدد ذاته بها. الإنسان ذات قابلة لأن تحمل ما لا حصر له من المحمولات والتعيينات، وكل واحدة من هذه المحمولات والتعيينات هي حد وفرق. ومنذ كف الإنسان عن كونه نوعاً صائداً بين أنواع أخرى واستوى على دوره النوعي بستانياً لهذا العالم، بادئ ذي بدء، صار بذلك سيد عالمه ومالكه وحري به أن يصير سيد نفسه ومالكها. ولكن الاختلاف الذي كان، ولا يزال يتجلى في اختلاف التحديدات الذاتية والتعيينات الموضوعية وضع العبودية ووضع إزاءها الحرية، ووضع جدلية الظلم والقهر واهتضام الحقوق. بهذه الجدلية لا بغيرها صنع الإنسان تاريخه الذي سيغدو بالتدريج تاريخ العالم. ووفق هذه الجدلية أنتج نفسه في التاريخ وفي العالم، وراح يستعيد موضوعيتهما في ذاته بالتدريج أيضاً حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم، على الخط الذاهب إلى اللانهاية.

وإذا كان الاختلاف واقعاً موضوعياً فإن العبرة في مسألة الأقليات تكمن في "العنصر الذاتي"، أي في إدراك أفراد جماعة معينة باختلافهم وتمايزهم، وإدراك الجماعات الأخرى القريبة منها لهذا الاختلاف والتمايز، وهو ما يؤدي إلى الشعور بالانتماء إلى جماعة معينة في مواجهة الجماعات الأخرى. وهذا ما يدعوه بعضهم بالحاجة إلى الانتماء. هذا العنصر الذاتي يعززه في حالة الأقلية القومية عنصر موضوعي هو اللغة، بوصفها وعاء للثقافة، فاللغة كانت ولا تزال شرطاً رئيساً من شروط الاجتماع البشري. وفي ضوء هذا الانتماء تتشكل العناصر الأولية للهوية القائمة أساساً على إدراك الاختلاف والمغايرة. ولكن هذه الهوية الأولية ليست معطى نهائياً، فلا بد لها لكي تغدو كذلك من تعزيز أو توكيد يقوم به الآخر المختلف؛ فللآخر أثر حاسم في عملية تعضي الأقلية وتعزيز تلاحمها الداخلي. ويمكن القول: إن الأكثرية هي التي تصنع الأقلية إما بمنحها الامتيازات وإما بحرمانها من الحقوق، وللمنح والحرمان أثر واحد في نهاية التحليل. إن منح جماعة معينة امتيازات من أي نوع ومن أي درجة من شأنه أن يضاعف عزلة هذه الجماعة عن الجماعات الأخرى ويقوي لديها شعورها بالاختلاف والتمايز، أي من شأنه أن يولد لديها وضدها في الوقت نفسه نعرة دينية أو مذهبية أو قومية. الزيادة هنا هي أخت النقصان. فكل من يحظى بما ليس من حقه يكون قد هضم حقوق آخرين أو أسهم في ذلك من دون قصد. ومن ثم لا بد له من إقامة الأسوار والحصون التي تحميه وتحفظ مصالحه، ولكن السور الذي يحميك اليوم يحبسك غداً، وهكذا ينشأ التحاجز الاجتماعي، حين تنغلق الجماعات على مصالح خاصة حصرية لا ترى في مصالح الآخرين سوى عقبات ينبغي إزالتها. والمصالح الخاصة عمياء دوماً، بمعنى أنها ضرورة وضرورات لا يد أن توعى جيداً لكي يمكن إدماجها في مصلحة عامة، وهذه ليست جمعاً حسابياً لتلك. وعلى أساس هذه المصالح الخاصة تقوم أيديولوجيات تستمد منها صفات الحصرية والانغلاق والعمى. ومع ذلك فإن العلاقات الاجتماعية تنطوي دوماً على آليات معقدة ومركبة للإدماج والتوحيد أو للاستبعاد والإقصاء؛ فمسألة الآقليات لا تتعلق بكينونات مغلقة ومنعزلة وهويات ثابتة وجوهرية، ولا بأوضاع ثابتة، ستاتيكية، بل تتعلق بنمط العلاقات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في هذا المجتمع أو ذاك، تعلقها بمستوى الوعي الاجتماعي.

ومن البديهي أن تحرص كل جماعة دينية أو مذهبية أو قومية على تنمية إدراك الاختلاف والتمايز لدى أعضائها من التنشئة الأولى وسيلة لحفظ كيانها الجمعي وتراثها الثقافي ومصالحها. والآخرون يفعلون الشيء نفسه للأسباب ذاتها. وقد يكون هؤلاء الآخرون عاملاً مهماً في تنمية الإدراك الأقلوي لدى آخريهم بممارسة التفرقة والتمييز في المعاملة والسلوك، مما يولد عند هؤلاء شعوراً  أقلوياً متزايداً نتيجة الإحساس بالاضطهاد. ويغلب أن يكون هذا الشعور ضمنياً، عند الأقليات، لا يلبث أن ينفجر لدى أول اختبار، مدفوعاً بضرب من غل تاريخي أساسه مديونية رمزية لجماعة تحدد موقعها الاجتماعي ونصيبها من الثروة والسلطة وفق مبدأ الغلبة والقهر. ويمكن أن يتجلى ذلك في حالتين: أولاهما، أن يكون حجم إحدى هذه الأقليات كبيراً ومركزاً جغرافياً في منطقة واحدة، وأن يكون لديها شعور شديد بالتمايز يرافقه شعور بالغبن أو بالتفوق. والثانية حماسة النخبة القومية لمشروع قومي توحيدي لا يراعي حقوق الأقليات ومصالحها، مما يجعل هذه الأقلية أو تلك تحس بالخطر لا على مصالحها فحسب، بل على كيانها الاجتماعي وتراثها الحضاري أيضاً. ولا بد من الاعتراف أن أي مشروع وحدوي يمكن أن يثير مخاوف الأقليات، ولا سيما القومية منها. ومن هنا تنبع أهمية إعادة تأسيس المشروع الوحدوي على أسس إنسية وعقلانية وعلمانية وديمقراطية، وعلى مبدأ الإنسان وفكرة التاريخ ومفهوم التقدم.

1 ـ تعريف الأقلية :

تختلف تعريفات الأقلية بحسب بؤرة الاهتمام التي ينطلق منها التعريف، والسياق الذي يندرج فيه، والوظيفة التي يراد له أن يقوم بها. وسنعرض لعدد من التعريفات نشفعها بالنقد وصولاً إلى تعريف يناسب حالتنا المخصوصة في سورية.

ـ عرفت الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية الأقلية بما يلي: الأقلية جماعة من الأفراد الذين يتميزون عن بقية أفراد المجتمع عرقياً أو قومياً أو دينياً أو لغوياً. وهم يعانون من نقص نسبي في القوة، ومن ثم، يخضعون لبعض أنواع الاستعباد والاضطهاد والمعاملة التمييزية.

ـ وتناولت الموسوعة الأمريكية الأقليات على أنها: جماعات لها وضع اجتماعي داخل المجتمع أقل من وضع الجماعات المسيطرة في المجتمع نفسه، وتمتلك قدراً أقل من القوة والنفوذ وتمارس عدداً أقل من الحقوق مقارنة بالجماعات المسيطرة في المجتمع. وغالباً ما يحرم أفراد الأقليات من الاستمتاع الكافي بامتيازات مواطني الدرجة الأولى. ( لابد أن يتساءل المرء هنا: هل ينطبق هذا التعريف على الوضع الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية، أم إنه "بضاعة" أمريكية للتصدير ؟ )

ـ أما مسودة الاتفاقية الأوربية لحماية الأقليات فتقرر أن مصطلح الأقلية يعني جماعة عددها أقل من تعداد بقية سكان الدولة، ويتميز أبناؤها عرقياً أو لغوياً أو دينياً عن بقية أعضاء المجتمع، ويحرصون على استمرار ثقافتهم أو تقاليدهم أو ديانتهم أو لغتهم.

ـ وأما اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة فقد عرفت الأقليات بأنها: جماعات متوطنة في المجتمع تتمتع بتقاليد خاصة وخصائص إثنية أو دينية أو لغوية معينة تختلف بشكل واضح عن تلك الموجودة لدى بقية السكان في مجتمع ما وترغب في دوام المحافظة عليها.

ـ وأما إعلان الأمم المتحدة حول حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية (أو عرقية) ودينية ولغوية فقد سكت عن تعريف الأقلية متجاوزاً ذلك في مواده التسع إلى تأكيد أهمية الحفاظ على حقوق الأقليات ومساواتهم في الحقوق مع الأغلبية. وقد عرض على اللجنة التحضيرية لهذا الإعلان تعريف للأقلية قدمه الوفد الألماني يقول: الأقلية هي جماعة من مواطني الدولة تشكل أقلية عددية لا تحظى بصفة السيطرة أو الغلبة في الدولة، ويتميزون عن بقية أعضاء المجتمع عرقياً أو لغوياً أو دينياً، وهم يميلون إلى التضامن معاً، ويحرصون ، وقد يكون هذا الحرص كامناً، على البقاء، ويهدفون إلى تحقيق المساواة مع الأغلبية واقعاً وقانوناً.

يبدو هذا التعريف أقرب التعريفات السابقة إلى منطق حقوق الإنسان الذي لا يتعارض مع مبدأ السيادة الوطنية، سيادة الدولة الوطنية أو القومية. فهو يبرز حقيقة أن الأقلية جماعة من مواطني الدولة، ومن ثم فإن جميع الصفات الأخرى تقع في دائرة هذه الحقيقة الموضوعية. فحقوق الأقليات لا يجوز أن تتعارض مع سيادة الدولة. وهذه هي في اعتقادي المسألة المركزية. أما بقية التحديدات التي تضمنها التعريف فتتقاطع مع التعريفات الأخرى إلى حد بعيد: العدد (أقل من نصف السكان) وإدراك الاختلاف والتمايز، والميل إلى التضامن، والحرص على البقاء، والتطلع إلى المساواة. ويبدو تعريف الموسوعة الأمريكية استثناء، في إبراز عدم تمتع الأقلية بامتيازات مواطني الدرجة الأولى.

أما بقية التعريفات فيلاحظ أنها تستند إلى مقولة التمايز مقطوعة عن سياقها المنطقي الذي يفترض وحدة المجتمع والدولة، والاندماج الوطني، بقدر ما يفترض التماثل أو التشابه، وذلك لصدورها جميعاً عن رؤية وضعوية تعزل الظاهرة عن سياقها التاريخي من جهة وعن علاقاتها المتبادلة بغيرها من الظاهرات الاجتماعية من جهة أخرى. وهذه الرؤية الوضعوية رؤية ستاتيكية تتعامل مع الأقليات على أنها هويات ثابتة وماهيات وجواهر معرفة بذاتها، وتتعامل مع العلاقات الاجتماعية من ثم على أنها علاقات ذات اتجاه واحد، أي علاقات تخارج وتنابذ وتفاصل، مع أنه ليس في الواقع تخارج بلا تداخل ولا تنابذ بلا تجاذب ولا تفاصل بلا تواصل. وعيب هذه الرؤية الستاتيكية أنها تنظر إلى المجتمع بدلالة أحد أجزائه أو بعض أجزائه بدل أن تنظر إلى هذا الجزء أو إلى هذه الأجزاء بدلالة المجتمع. الجزء في هذه التعريفات يحدد الكل، في حين إن الكل هو الذي يحدد جميع أجزائه. لذلك فإن أياً من هذه التعريفات أو التحديدات لا يصلح مستنداً لبحث مسألة الأقليات في سورية، لا من حيث التحديدات الموضوعية، بل من حيث زاوية النظر ومنهج البحث. كما أن مقولة الاختلاف، أو التمايز ليست مطلقة في جميع الأحوال؛ إذ يمكن أن تكون الأقلية مختلفة قومياً ومتفقة دينياً أو مذهبياً، وثقافياً، كما يمكن أن تكون مختلفة دينياً أو مذهبياً ومتفقة قومياً ولغوياً وثقافياً. وما هو حاسم في هذه المسألة هو في الحقيقة هوية الدولة التي تحدد بصورة نهائية إمكانية الاندماج الوطني والاجتماعي[2][2] أو عدم إمكانيته. فالدولة الدينية والدولة الاستبدادية، على سبيل المثال، لا تتيحان أي فرصة للاندماج، بخلاف الدولة الوطنية أو الدولة القومية التي لا يمكن أن تكون وطنية حقاً وقومية فعلاً ما لم تكن علمانية وديمقراطية في آن.

لمقاربة هذه المسألة في سورية لا بد من تضافر التحليل التاريخي والتحليل الاجتماعي (الطبقي) والتحليل الرياضي، في نطاق رؤية جدلية للواقع والتاريخ. فمنطق الاجتماع أقرب ما يكون إلى المنطق الرياضي الأكثر تجريداً والأكثر واقعية في الوقت ذاته. إن جدل العشوائية والانتظام وجدل الضرورة والحرية وجدل الخاص والعام هو الذي يحكم الاجتماع البشري بوصفه انبساطاً للروح الإنساني في الزمان والمكان، ومن ثم فإن للوعي، بوصفه الوجود مدركاً، أثراً حاسماً في تحديد الموقف من هذه المسألة. وبقدر ما يكون هذا الوعي كونياً وتاريخياً وديمقراطياً وعلمانياً وجدلياً يكون الموقف عقلانياً وإنسانياً في آن. مثل هذا الوعي الذي وصفت يفترض وحدة المجتمع والدولة في نطاق وحدة النوع البشري أو وحدة العالم. وقوام الوحدة الفعلية، كما هو معروف، هو التعدد والتنوع والاختلاف والتعارض. وشتان بين معالجة مسألة الأقليات من منطلق الوحدة ومعالجتها من منطلق التجزئة والتذرير.

من هذا المنطلق يمكن تعريف الأقليات على النحو الآتي: الأقليات هي جماعات قومية أو لغوية ثقافية أو دينية أو مذهبية تنتظم في بنى وتشكيلات، وتقوم في داخلها وفيما بينها وبين الأكثرية علاقات يحددها مستوى تطور المجتمع المعني ودرجة اندماجه القومي والاجتماعي، وتتحدد العلاقات الداخلية في كل منها بنمط العلاقات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في كل مرحلة من مراحل التطور، وهي دائماً علاقات نبذ وجذب متوازية تحدد على نحو حاسم درجة الاستقرار الاجتماعي والسياسي. والعنصر الحاسم في وجود الأقلية هو وعيها الذاتي باختلافها وتمايزها، وحرصها على البقاء والمحافظة على هويتها، وتطلعها إلى المساواة. ويمكن القول: إن الأقلية لا تظل كذلك إلا بقدر ما تطلب لنفسها نوعاً من الحقوق الخاصة تعزز انغلاقها على ذاتها وممانعتها للاندماج. ولذلك فإن مسألة العدد ليست حاسمة في هذا المجال.

في ضوء هذا التعريف يمكن القول: إن حقوق الإنسان حد يحد حقوق الأقليات، وإن وحدة المجتمع والدولة القائمة على مبدأ حرية الفرد وحقوق الإنسان حد يحد حقوق الأقليات، و من ثم، فإن حقوق الأقليات حد يحد حقوق الأكثرية أو الأغلبية. أي إن حقوق الأقليات هي واجبات الأكثرية التي تسم المجتمع والدولة بميسمها. إن الدولة الوطنية أو القومية الحديثة، أي العلمانية والديمقراطية بوجه خاص لا تبدو لمواطنيها من الداخل إلا في صورة دولة حق وقانون، بقدر ما تكون كذلك طبعاً، في حين تبدو لغير مواطنيها من الخارج دولة قومية. إن وصف سورية بأنها دولة عربية لا ينتقص أي حق من حقوق المواطنين السوريين غير العرب، لأن هذا التحديد هو بالأحرى تحديد إزاء الخارج، لا إزاء الداخل. أجل الدولة هي التحديد الذاتي للشعب، ومن البديهي أن تغلب عليها سمة أكثرية الشعب. جميع الدول المنسوبة إلى شعوبها كذلك. والباحث يعتقد أن انتقاص أي حق من الحقوق هو انتقاص من الحقوق كلها، بما فيها حق الحياة. وأن انتقاص حقوق أي جزء من المجتمع مهما كان قليل العدد هو انتقاص من حقوق المجتمع كله. إن المجتمع القابل للنمو والتقدم هو المجتمع الحر. ولا يكون المجتمع حراً إلا حين يكون جميع أعضائه أحراراً. والحرية مشروطة دوماً بالقانون والمسؤولية. إن حل مسألة الأقليات في سورية حلاً علمانياً، بفصل الدين عن السياسة وحياد الدولة حياداً إيجابياً إزاء جميع الأديان والمذاهب والأيديولوجيات السياسية، العلمانية وغير العلمانية، وديمقراطياً بتحقيق المساواة الفعلية بين جميع المواطنين أمام القانون، وبتحقيق العدالة الاجتماعية بوصفها الصيغة العملية للمساواة، وبإطلاق الحريات العامة، وإطلاق روح المبادرة الخلاقة لجميع المواطنين بلا استثناء ولا تمييز، إن حل مسألة الأقليات على هذا النحو هو أهم ضمانات الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

2 ـ تسييس مسألة الأقليات :

يرجع أغلب الباحثين الغربيين والعرب ازدياد الاهتمام بظاهرة الأقليات إلى مطلع القرن التاسع عشر، حينما تضمنت اتفاقيات فيينا (1814 ـ 1815 ) نصوصاً تدعو إلى الحرية الدينية والمساواة السياسية. ثم تطور ذلك الاهتمام بتكثيف نشاط الحركة اليهودية، في الربع الأول من القرن العشرين، لحماية الأقليات عامة واليهودية منها خاصة، ومنحها المساواة في الحقوق المدنية والسياسية في الدول التي كانت تنكر عليها هذه الحقوق. وتزايد هذا الاهتمام بمناداة الحركة الاشتراكية العالمية بحق تقرير المصير عام 1918 . وبعد ذلك أشارت اتفاقيات مؤتمر السلام في فرساي ( 1919 ـ 1920 )، في إطار عصبة الأمم، إلى الحقوق الثقافية والقومية للأقليات. ثم وضعت الأمم المتحدة إعلان حقوق الإنسان (10/12 / 1948 ) الذي منع التمييز على أساس العرق أو الدين أو اللون أو الاتجاه السياسي، وصولاً إلى إعلان الأمم المتحدة الخاص بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية الصادر في 10 /12 /1992 .[3][3] والعودة إلى هذة المعاهدات والمواثيق تؤكد أن مسألة الأقليات كانت مندرجة دوماً في النزاعات المحلية والإقليمية والدولية. سواء في محاولات إذكاء هذه النزاعات أو في محاولات إخمادها.

بيد أن تسييس مسألة الأقليات في الوطن العربي بوجه عام، وفي سورية بوجه خاص يرجع إلى بدايات التوسع الرأسمالي الغربي في الإمبراطورية العثمانية، وفرض نظام الامتيازات ومبدأ "حماية الأقليات".[4][4] فقد أدى ضعف الدولة العثمانية التي قامت على المركزية العسكرية واللامركزية الإدارية، والتي كانت مخترقة بنظام الملل ونظام الامتيازات، إلى تمكين الأوربيين من تحويل نظام الملل إلى مسألة أقليات، مستفيدين من الامتيازات الممنوحة لهم في "حماية الأقليات". فقد اقتسمت الدول الكبرى الملل ورعت مصالحها وعمدت إلى تعزيز الروابط التقليدية التي تربطها بها. [5][5] وقد تنبهت السلطة العثمانية لمخاطر الحماية فأصدرت عام 1839 خط كلخانة الذي نص على المساواة بين الرعية أمام القانون، بغض النظر عن الدين أو المذهب، على أن تتحمل جميع أعباء المواطنة العثمانية فيما يتعلق بالضرائب والجندية. إلا أنها لم تفلح في إلغاء هذا النظام إلا عام 1914 .[6][6]ثم تنامى هذا الاتجاه بعد الحرب العالمية الأولى وخضوع البلدان العربية للاستعمار المباشر، إثر معاهدة سايكس بيكو التي جرى فيها توزيع أسلاب الإمبراطوية العثمانية المهزومة بين المنتصرين على نحو يمكنهم من التدخل في أوضاع هذه البلدان كلما بدرت منها بوادر الخروج على طاعتهم. فقد حاولت فرنسا تقسيم سورية إلى دويلات، لاثنتين منها على الأقل طابع مذهبي واضح هما دولة جبل الدروز ودولة جبل العلويين، إلا أن الشعب السوري بمختلف فئاته أحبط ذلك التقسيم فلم يلبث إلا قليلاً، ولم يثبت في ذاكرة السوريين. بل إن ثورتين مهمتين من الثورات السورية على الاستعمار الفرنسي انطلقتا من "جبل العلويين" و"جبل الدروز"، وتحولت الثانية إلى ثورة شاملة قادها سلطان باشا الأطرش، أحد أبناء الأقلية الدرزية. وكذلك ثورة إبراهيم هنانو الذي ينتمي إلى الأقلية الكردية. وبلغ تسييس هذه المسالة ذروته بعد فصل لبنان عن سورية وإقامة دولته على مبدأ التوازن الطائفي القلق، ثم إقامة دولة إسرائيل العنصرية على جزء من أرض فلسطين، فغدت مسألة الأقليات أحد المحاور الأساسية في استراتيجية هذا الكيان الاستيطاني والتوسعي، وفي استراتيجيات الدول الكبرى. ومما يلفت النظر زيادة الاهتمام بحقوق الأقليات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية قوة عظمى وحيدة فرضت نفسها على الأمم المتحدة وعلى العالم.

وتجدر الإشارة إلى أن الردة الدينية ومحاولات إنعاش الهويات الحصرية التي يشهدها العالم، ولا سيما أطرافه أو هوامشه المتأخرة، أسهمت هي الأخرى في تعزيز عملية التسييس التي غدت أحد محاور السياسة الأمريكية في دول الاتحاد السوفييتي السابق والاتحاد اليوغوسلافي السابق وفي الوطن العربي وأماكن أخرى كثيرة أيضاً. وفي الوطن العربي تضافرت العوامل الخارجية والتأخر التاريخي والاستبداد السياسي في انفجار مسألة الأقليات واندلاع النزاعات المحلية والحروب الأهلية التي أسفرت، بين عامي 1956 و1991 ، عن مقتل 1230000 ضحية وتشريد 7300000 شخص وهدر مئة مليار دولار.[7][7]

الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أساس حقوق الأقليات:

قام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أساس "الاعتراف بالكرامة الإنسانية المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية والثابتة" وهذا الاعتراف، كما جاء في ديباجة الإعلان هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم. فإن ما يرنو إليه عامة البشر هو انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة. وليس من ضامن لحقوق الإنسان وحريته سوى القانون، وإلا فإن الناس يضطرون في آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم.

والمبادئ العامة، الأساسية، التي نص عليها الإعلان العالمي، هي الأساس الذي تقوم عليه حقوق الأقليات، وإلا فإن المناداة بهذه الحقوق، على غير هذا الأساس، يمكن أن يذهب في اتجاهات غير مرغوب فيها تحددها مصالح بعينها، تبرهن التجربة الحية يوماً بعد يوم أن أصحاب هذه المصالح لا يريدون خيراً بالأقليات وليسوا من يوثق بهم في الدفاع عنها. وفي هذا المجال يساورنا الشك في الدوافع والغايات التي صيغت في ضوئها وثيقة الأمم المتحدة حول حقوق الأفراد المنتمين إلى جماعات قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية التي صدرت عام 1992 ، أي بعد أن فرضت الولايات المتحدة نفسها قوة وحيدة على الأمم المتحدة وعلى العالم. ولا سيما أن هذه الوثيقة تتحدث عن دور الأمم المتحدة في "حماية الأقليات"، ويعرف الجميع أنه ليس بوسع الأمم المتحدة أن تفعل ذلك إلا بوساطة القوات الأمريكية. وهي شر عدو لحقوق الإنسان. ويخشى أن تكون أهم الدوافع والغايات تفكيك الدول القومية وتفتيت المجتمعات على نحو ما جرى في الاتحاد السوفييتي السابق ويوغوسلافيا وغيرهما، أو على نحو ما "دافعت" الولايات المتحدة الأمريكية ولا تزال "تدافع" عن حقوق الإنسان وحقوق الأقليات في العراق. وفي هذا السياق لا بد من تأكيد حقيقة أن مسألة الأقليات في كل مجتمع هي مسألة داخلية صرفة، لا يمكن حلها من الخارج، وإلا عدنا إلى نظام "حماية الأقليات" الذي فرضته الدول الأوربية على الدولة العثمانية، فقوضت أركانها. ليس بوسع أي قوة خارجية أن تحل مسألة الأقليات، أو أي فرع من فروعها، في مجتمع ما حلاً ناجعاً ودائماً ما لم يحلها المجتمع المعني نفسه، بوسائله الخاصة، ووفق مصالحة الوطنية.

الأساس الأول هو ما نصت عليه المادة الأولى من الإعلان: "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء".

هذا المبدأ الأنطولوجي ـ الوجودي ـ هو ذاته المبدأ العقلي والأخلاقي. لكن الناس يعيشون في مجتمعات تشكلت تاريخياً على أساس آخر هو اغتراب الإنسان عن ناتج عمله (عمل الرأس واليدين) واغترابه عن عالمه وعن ذاته. وقد كانت الملكية الخاصة ولا تزال أهم عوامل هذا الاغتراب وأبرز مظهر من مظاهره. التفاوت في الملكية أنتج تفاوتاً في القوة وأنتج من ثم تفاوتاً في الحقوق. "لكل من الحق بقدر ماله من القوة".

ثمة إذاً تفاوت صارخ بين الأساس الوجودي، العقلي والأخلاقي، والممارسة العملية. فإذا كان ما جاء قي المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان منطقياً وأخلاقياً[8][8] فإن الممارسة العملية، والأسس التي قامت عليها الحياة الاجتماعية والسياسية حتى يومنا، ليست كذلك، حتى في أكثر الدول تقدماً ومراعاة لـ "حقوق الإنسان". ولكن للمبدأ قوة أخلاقية بوصفه معياراً للممارسة وحاكماً عليها. لذلك لا بد من الاعتراف بالمبدأ اعترافاً أولياً ونهائياً. إضافة إلى ما تقدم، لا بد من الاعتراف بالمبادئ الآتية التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:

·     كل إنسان أينما وجد، له الحق أن يعترف بشخصيته القانونية.

·     كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة دون أي تفرقة، كما أن لهم جميعاً الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان، وضد أي تحريض على تمييز كهذا.

·     لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو مساس بشرفه وسمعته. ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات.

·     لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة. ويحق لكل فرد أن يغادر أي بلد، بما في ذلك بلده، كما يحق له العودة إليها.

·     لكل فرد الحق أن يلجاً إلى بلاد أخرى أو يحاول الالتجاء إليها هرباً من الاضطهاد. ما لم يكن محكوماً بجرائم غير سياسية، أو بأعمال تناقض أغراض الأمم المتحدة ومبادئها.

·     لكل فرد حق التمتع بجنسية ما، ولا يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسفاً أو إنكار حقه في تغييرها.

·     لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر والطقوس ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة.

·     يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملاً، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية.

·     لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير. ويشمل هذا الحق اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.

·     لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية. ولا يجوز إرغام أحد على الانضمام إلى جمعية ما.

·     لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة وإما بوساطة ممثلين يختارون اختياراً حراً. ولكل شخص الحق نفسه الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد. وإرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع، أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت.

تحقيق هذه المبادئ واقعياً يفترض، كما توحي نصوصها، علاقات اجتماعية حديثة، ودولة ديمقراطية وعلمانية بالضرورة. أو لنقل إنها تفترض مجتمعاً مدنياً حديثاً ودولة ديمقراطية. وهو افتراض يحيلنا على الأسباب العميقة التي حالت ولا تزال تحول دون تمتع الأقليات بحقوقها المشروعة. هذه الأسباب تضرب جذورها عميقاً في بنى المجتمع التقليدي المتأخر والمستباح، وفي بنية الدولة الاستبدادية. فالاستبداد الشرقي المحدث المنبعث من جوف التاريخ، والذي يقوم على الاستتباع والاستعباد يقتل في الإنسان شخصه القانوني ثم يقتل فيه شخصه الأخلاقي، ناهيك عن الإفقار والتقفير، أي تحويل البشر إلى كائنات مفعمة بالمرارة والشعور بالعجز والخواء واللاجدوى. بهذه الآليات يدمر الاستبداد مجال الحياة العامة الذي يوفر فرص اندماج الجماعات الدينية والمذهبية والقومية واللغوية والثقافية والفئات الاجتماعية في نسيج اجتماعي يرقى بالأفراد من رعايا إلى مواطنين، ويسمح بإنتاج هوية وطنية تعيد ترتيب الروابط الأولية والعلاقات الاجتماعية على محور الانتماء الوطني. ثم لا يلبث أن يدمر مجال الحياة الخاصة والشخصية، فيقضي على ذاتية الفرد وحريته واستقلاله. فمن العبث أن نبحث عن معوقات حقوق الإنسان بوجه عام، وعن أسباب عدم تمتع الأقليات، بوجه خاص، بحقوقها خارج نطاق علاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية، وخارج نطاق الدولة وعلاقتها بالمجتمع الذي يفترض أنه أنتجها.

مسألة الأقليات في سورية:

أقر الدستور السوري، الذي صدر بالمرسوم رقم /208/ تاريخ 13/3/1973، معظم المبادئ التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وخاصة في المواد: 25 و 33 و35 و 38، ولكن هذه المبادئ ظلت حبراً على ورق، بل إن الدستور نفسه ولد ميتاً في ظل حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي ترزح البلاد تحتها منذ الثامن من آذار عام 1963 . كما أن آليات مراكمة السلطة وحصر جميع السلطات في يد واحدة واحتكار جميع مصادر الثروة والقوة والسلطة في المجتمع، والسيطرة من ثم على جميع مفاصل حياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، جعلت الحقوق برمتها والحريات الأساسية برمتها في خبر كان.

فقد جاء في المادة /25/ من الدستور ما يلي:

·     الحرية حق مقدس وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم وتحافظ على كرامتهم وأمنهم.

·     سيادة القانون مبدأ أساسي في المجتمع والدولة.

·     المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات

·     تكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين.

·     لكل مواطن الحق في الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وينظم القانون ذلك.

·     يمارس المواطنون حقوقهم ويتمتعون بحرياتهم وفقاً للقانون.

وفي المادة /33/:

·     لا يجوز إبعاد المواطن عن أرض الوطن.

·     لكل مواطن الحق بالتنقل في أراضي الدولة إلا إذا منع من ذلك بحكم قضائي أو تنفيذاً لقوانين الصحة والسلامة العامة.

·     لا يسلم اللاجئون السياسيون بسبب مبادئهم السياسية أو دفاعهم عن الحرية.

وفي المادة /35/

·     حرية الاعتقاد مصونة وتحترم الدولة جميع الأديان.

·     تكفل الدولة حرية القيام بجميع الشعائر الدينية على ألا يخل ذلك بالنظام العام.

وفي المادة /38/

·     لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى، وأن يسهم في الرقابة والنقد البناء بما يضمن سلامة البناء الوطني والقومي ويدعم النظام الاشتراكي، وتكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة وفقاً للقانون.

هذه المبادئ التي تضمنها الدستور السوري تشكل، في حال العمل بمقتضاها، أساساً مكيناً لحل مسألة الأقليات في سورية بما يعزز الوحدة الوطنية، وحدة المجتمع والدولة بما هي وحدة التعدد والتنوع والاختلاف والتعارض. لذلك فإن المقدمة الأولى لإحقاق حقوق الإنسان وحقوق الأقليات في سورية هي تحويل بنية الدولة التسلطية القائمة إلى دولة دستورية، دولة حق وقانون، لجميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز على أي أساس كان. والبدوة الأولى هي رفع حالة الطوارئ وإلغاء الأحكام والمحاكم الاستثنائية وجميع القوانين ذات الصلة، ولا سيما المخالفة منها للدستور، والمقيدة لمواده التي تكفل الحقوق المدنية والحريات الأساسية، وإزالة التناقض بين مواد الدستور ذاته. وكل حديث عن مسألة الأقليات لا ينطلق من هذه المقدمة يصب في محاولات إيقاظ الفتنة وتدمير الوحدة الوطنية. فليس من حل ناجع لمسألة الأقليات الدينية والمذهبية سوى علمنة المجتمع والدولة، وليس من حل ناجع لمسألة الأقليات القومية سوى الحل الديمقراطي. فمسألة الأقليات برمتها تتركز في الانعتاق السياسي، المقدمة اللازمة والضرورية منطقياً وتاريخياً للانعتاق الإنساني.




أشرنا آنفاً إلى أن المجتمع السوري من أكثر المجتمعات العربية تنوعاً، وهو من أكثر المجتمعات الشديدة التنوع استقراراً في الوقت ذاته. وإذا كانت المركزية (أي قيام دولة مركزية) والاستقرار الاجتماعي والسياسي معيارين أساسيين، فإن التركيب السكاني في سورية لم يكن في يوم من الأيام حائلاً دونهما. وهذا بحكم الرجحان العددي لأكثرية المجتمع القومية (العرب)، ولأكثريته الدينية (المسلمين السنة، بمن فيهم المواطنون من الكورد)، وتصاقب الأكثرية القومية والأكثرية الدينية. ويمكن القول إن المجتمع السوري، في ضوء نسبة غير العرب إلى العرب، (مع أن المسألة لا تنحل في النسب العددية، بل تتعداها إلى طابع العلاقات الاجتماعية)، يتوفر على عوامل الاستقرار والوحدة الوطنية، ومن الصعوبة بمكان خلخلة هذا الاستقرار أو العبث بهذه الوحدة. غير أن الوحدة الوطنية ليست معطى ناجزاً ونهائياً، بل هي، بالأحرى، معركة مفتوحة ينبغي كسبها ياستمرار. ومن شروط كسبها اليوم، إضافة إلى ما أشرت إليه، هو توحيد القانون، إي إخضاع قوانين الأحوال الشخصية المختلفة والمتباينة للقانون المدني الذي تسري أحكامه على جميع المواطنين. وإجازة الزواج المدني بلا قيود سوى قيد القانون المدني. فلا يعقل أن يكون في مجتمع واحد يتطلع إلى الاندماج الوطني والاجتماعي قوانين متعددة في مجال الأحوال الشخصية. فإن توحيد المرجعية القانونية شرط لازم لتوحيد المجتمع، وإن قوام وحدة المجتمع والدولة الفعلية هي القانون بصفته تعبيراً عما هو عام ومشترك بين جميع المواطنين وبين جميع الفئات الاجتماعية. ولا يذهبن الظن إلى أن المسألة يمكن أن تحل بقوانين ومراسيم، على أهمية هذه وتلك، بل باكتساب منجزات الحداثة وتمثلها على صعيد المجتمع، وإحداث ثورة كوبرنيكية على صعيد الوعي الاجتماعي تغير زاوية نظر المجتمع إلى نفسه وإلى الطبيعة وإلى العالم. فكوبرنيكوس لم يغير نظام الكون، بل  غير زاوية النظر إليه فحسب، فتغير كل شيء في ذهن الإنسان. ولعلنا نغامر هنا فنقول: إن قضية حقوق الإنسان، بوجه عام، وحقوق الأقليات، بوجه خاص، هي قضية تحديث الوعي الاجتماعي وعقلنته وعلمنته ودمقرطته. وليس لدينا وهم حول الطابع الذاتي لهذه العملية، ولكننا نراهن على عناصر موضوعية موجودة في واقعنا بالقوة وبالفعل، وعلى إيقاع تطور العالم الذي نحن جزء منه. فما تحقق من تقدم في أي مكان من العالم هو محرز إنساني عام لبني الإنسان. وأساس الرهان أن الأيديولوجية العربية السائدة انقطعت جميع صلاتها بالواقع وغدت متخلفة عن ممارسة المجتمع الذي يتبناها. وهنا تكمن إشكالية التأخر التاريخي لشعوب ملقاة على هامش العصر، وقد تخرجها العولمة الرأسمالية المتوحشة من التاريخ.

باستثناء المواطنين السوريين الذين ينتمون ذاتياً وموضوعياً إلى القومية الكوردية، لا تعاني أي أقلية دينية أو مذهبية أو قومية أو لغوية ثقافية من اضطهاد وتمييز موصوفين. حتى الإجراءات التمييزية وأشكال الاضطهاد القومي التي يعانيها الأكراد السوريون لا تعدو كونها ممارسات وإجراءات غير قانونية وغير دستورية تقوم بها بعض السلطات المحلية، ولا سيما الأمنية منها، في مناطق سكناهم المتعددة. اللهم سوى ما هو مركزي من هذه الإجراءات كالحزام العربي، وحرمان نحو 160000 مواطن من الجنسية السورية، بموجب إحصاء عام 1962 . ولا تزال هذه القضية معلقة تحتاج إلى حل جذري بمقتضى الدستور. وهذا لا يعني بالطبع عدم وجود مشكة أقليات في سورية التي لا تزال تعاني من نقص الاندماج الوطني والاجتماعي، للأسباب التي أتينا على ذكرها.

وتجدر الإشارة إلى أن الأكراد السوريين يقيمون في مناطق مختلفة ومتباعدة، في العاصمة دمشق وفي شمالي البلاد وشرقيها، ومعظمهم مستعربون، ومعظم هؤلاء المستعربين لا يعرفون أياً من اللهجات الكردية، إضافة إلى أن للأكراد والعرب المسلمين قاع ثقافي مشترك وتجربة تاريخية واحدة قلما امتاز خلالها الأكراد من العرب. فقد شارك الأكراد في الحياة السياسية بنشاط وحيوية وتسنم بعضهم مناصب رسمية عالية في الإدارة المدنية والجيش، بما فيها رئاسة الجمهورية من دون أن يثير ذلك أي رد فعل قومي أو حساسية قومية لدى العرب. بل إن الأكراد عرفوا دوماً بحميتهم في الدفاع عن الوطن والغيرة على استقلاله وسيادته ووحدة ترابه، وليس فيهم اليوم من يطالب بالحكم الذاتي، ناهيك عن المطالبة بالانفصال. ولكنه ليس من المنطقي أن نتجاهل حقهم في التعاطف مع بني جلدتهم في التطلع إلى إقامة دولة كردية، بقدر ما تتوافر الشروط الموضوعية والذاتية لقيامها. كما أنه ليس من المنطقي تجاهل حقوقهم الثقافية بصفتهم جماعة قومية تحرص على تعزيز هويتها الثقافية وتضامنها الداخلي. وإذا كان بين الأكراد السوريين من هم متعصبون قومياً، وهو أمر مطرد لدى جميع القوميات، فلا بد من إدراك حقيقة أن هذا التعصب لا يعدو كونه رد فعل على التعصب القومي لدى العرب. ومن هنا تنبع أهمية تنقية الوعي القومي العربي من شوائب التعصب. فالتعصب القومي هو مرض القومية الخبيث في كل مكان وزمان.

إن أحد المعايير المهمة في تقويم العلاقة بين الأكثرية والأقليات هو الزواج الخارجي، أي زواج العربي من غير العربية وبالعكس، وزواج المسلم من غير المسلمة وبالعكس. في ضوء هذا المعيار تبدو علاقة العرب بالأكراد خاصة أقرب إلى التدامج الاجتماعي، إذ لا قيود على الزواج الخارجي سوى قيود زواج المسلم من غير المسلمة وبالعكس. وزوال هذه القيود رهن بعلمنة قوانين الأحوال الشخصية. وقل مثل ذلك في العلاقة بين الأكثرية الإسلامية السنية والأقليات الإسلامية وغير الإسلامية. إذ لا يزال زواج المسلم السني من غير السنية يفرض تغيير دين الزوجة أو مذهبها. وزواج المسلمة السنية من غير المسلم يقتضي تغيير ديانة الزوج أو مذهبه.

أما في مجال الحقوق المدنية والحريات الأساسية فإن ما تعانيه الأقليات لا يختلف في شيء عما تعانيه الأكثرية، في ظل الأوضاع السياسية القائمة في البلاد منذ عام 1963 ، باستثناء ما أشرنا إليه مما يتعلق بالأقلية الكردية. ولا تزال الحقوق الثقافية لغير العرب بوجه عام مقيدة بالقيود التي فرضتها أوهام الأيديولوجية القومية العربية عن نفسها وعن الآخرين. ومن ثم فإن حل هذه المسألة رهن بتحديث الأيديولوجية القومية وعقلنتها وعلمنتها ودمقرطتها. ولكم يتمنى المرء أن تنمو بادرات الإصلاح التي بدأت في سورية للتو، لتفتح إمكانية إنتاج نظام ديمقراطي وعلماني يستجيب لمطالب الروح الإنساني ومطالب العقل، فيمكن جميع ذوي الحقوق من التمتع بحقوقهم في ظل سيادة القانون وسيادة الشعب.


· مسألة الأقليات، أو الجماعات القومية والإثنية واللغوية والثقافية والدينية والمذهبية هي بالأحرى مسائل جرى التعبير عنها بالجمع ومعالجتها بالجملة. واستعملت للدلالة عليها مجتمعة كلمات ومصطلحات وضعتها الأكثرية، لا تخلو أي منها من مغزى أيديولوجي لا يلقى قبولاً ولا   ارتياحاً من الجماعة المعنية في كل مرة. ونحن إذ نستعمل كلمة أقلية أو كلمة أقليات لا ننكر ما تحمله هذه الكلمة  أو تلك من شعور ضمني بالتفوق والاستعلاء، ومن إيحاء بتهوين المسألة والتقليل من شأنها وأهميتها، حتى حين تكون تداعياتها خطرة ومؤرقة. وفي كل مرة يستعمل فيها مفهوم الأقلية أو الأقليات يستحضر تاريخاً من العلاقات المعقدة بين الأقلية المعنية والأكثرية التي  هي بإزائها، وهو تاريخ ملون دوماً بألوان ذاتية ومفعم بالأوهام عن الذات وعن الاخر. ولكن الجانب الموضوعي الذي ينطوي عليه المصطلح يحيل على مقولتي الكم والنسبة الرياضيتين، مما   يسوغ استعماله في البحث.

[1][1] - راجع ياسين الحافظ، في المسألة القومية الديمقراطية، دار الحصاد، دمشق، ط2 ، 1997 ، ص232 وما بعدها

[2][2] - مفهوم الاندماج الوطني أو الاندماج القومي والاجتماعي يقوم في معارضة مفاهيم الصهر والتذويب والتمثل، فهو مؤسس على المبدأ العلماني الديمقراطي، مبدأ المواطنة والمساواة أمام القانون.

[3][3] - راجع سعد الدين إبراهيم، الملل والنحل والأعراق، هموم الأقليات في الوطن العربي، مركز ابن خلدون، القاهرة، 1994 ، ص 15 وما بعدها.

[4][4] - في عام 942 هـ / 1535 م عقد السلطان سليمان القانوني معاهدة مع فرانسوا الأول، ملك فرنسة، عدت الأساس لفكرة الامتيازات التي تمتعت بها الدول الغربية، وكانت تلك الامتيازات انتهاكاً لسيادة الدولة، لا سيما في مجالي التشريع والقضاء.

[5][5] - راجع أحمد الصاوي، الأقليات التاريخية في الوطن العربي، مركز الحضارة العربية، السلسلة القومية، /1/ القاهرة، 1989 ، ص 30 وما بعدها.

[6][6] - المصدر نفسه، ص 36

[7][7] - سعد الدين إبراهيم، مصدر سابق

[8][8] - تقول المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "لكل إنسان حق التمتع بكل الحقوق والحريات (الواردة الإعلان العالمي)، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي، أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني والاجتماعي أو الثروة أو الميلاد، أو أي وضع آخر دون تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلاً عما تقدم، فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو للبقعة التي ينتمي إليها الفرد، سواء كان هذا البلد أو البقعة مستقلاً أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي، وكانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود"